أقلام القراءقضايا و آراء

خاشقجي.. شهيد الرّأي/ جمال بوزيان

جَمال خاشقجي صاحب قلم حُرّ في صحيفة “واشنطن بوست”؛ يُعبِّر كُلّ حين عن آرائه في قضايا بلده وقضايا العالَم بأريحيّة؛ هو كاتِب صحفيّ؛ مداده لا يَعرف عنفًا؛ مداده لا يَتدفّق ضدّ وطنه؛ مداده وديع؛ ليس له طموح سياسيّ؛ مُرشِد ناصح أمين؛ يُرسلُ تنبيهات إلى منظومة الـحُكم برؤية هادئة… نسأل: هلِ اغتيل لأنّه ناقد لطيف؟ هلِ اغتيل لأنّ له رأيًا؟ هلِ اغتيل لأنّ له رؤية؟.

لَم يكن طالِب سُلطةٍ ومالٍ ونفوذٍ؛ كان مداده مُوجَّهًا نحو الإصلاح والإرشاد داخل منظومة الـحُكم…ها هو اغتياله يَصنع رأيا عامّا عالَميًّا…لا نَتصوّر أحدًا لديه ذرّة من مَعرفة يقوده عقله نحو تلك الجريمة…لَم يَكن لديه سلاح؛ القلم سِلاحه؛ القلم سَلامه؛ لماذا غُدِرَ به؟ الحدث ليس جنونًا؛ لقد فاق الجنون…هذا أشنع يوم في تاريخ الصِّحافة العالَميّة؛ هذا يومها الأسود.

استقطبتْ قضيّة جمال خاشقجي رجال الإعلام والصِّحافة منْ كُلِّ أصقاع الأرض؛ صارت قضيّة رأي عامّ عالميّ دون مُنازع؛ استنفرتِ الـمُخابَرات الدّوليّة دون سابق إنذار؛ حَرّكتْ مِياهًا راكدةً في العلاقات الدّوليّة؛ إنّ جريمة اغتيال خاشقجي مِثل تسونامي تُعيد ترتيب العلاقات بيْن “الـمَملكة العربيّة السّعوديّة” وبعض دول العالَم.

وقدْ أماطتِ اللِّثام لأساتذة العلوم السّياسيّة والقانونيّة لتشريح أبعاد القضيّة لاسيما أنّها أَثَّرتْ على “تجارة الأسلحة”؛ هذا الشّريان العالَميّ النّابض زمنَ السِّلم وزمنَ الحرب.

خلخلتْ قضيّة جَمال الدِّبلوماسيّة الدّوليّة؛ كيْف لا؟ والجريمة وقعتْ في قنصليّة! نَعم الجريمة وقعتْ في قنصليّة؛ هي أصلًا للّطف وليس للعنف…وإنّ اغتياله في قنصليّة يَدفع إلى تغيير سياسات إنْ في بلده وإنْ خارجه؛ اغتياله قطرة أفاضتْ كؤوسًا عربيّة وعالَميّة…دون شكٍّ؛ إنّ اغتيال جَمال نقطة انعطاف في تاريخ الصِّحافة العالَميّة؛ وعهد فاصل في العلاقات الدّبلوماسيّة منذ اتّفاقيّة فيينا عام 1961م.

إنّ الـمُطِّلع على تقارير مُنظّمات حقوق الإنسان يَجد أعدادًا مهولة مِنَ الصّحفيّين الّذين قُتلوا في الحروب؛ وأثناء كتابة آرائهم في قضايا بلدانهم؛ القمع سوس يَنحر جسم الدّول الّتي تَقمع العاملين في وسائل الإعلام والصِّحافة؛ وتَغتالهم بدم بارد دون وجه حقّ.

الـمداد ليس رصاصًا فيواجَه بالدّم؛ ولا يُواجَه إلّا بالـمداد؛ والقلم ليس مِنشارًا؛ ولا يُواجَه بالـمِنشار…والقنصليّة ليست للاغتيال؛ أيّ اغتيال…كأنّ “القتلة الـمارقين” أتوا من كوكب آخر لا يَعرفون حقوق الإنسان وحُرمة الدّماء في الكوكب الأزرق.

أسئلة تُكرِّر نفسها: مَن يَحمي أهل الصِّحافة؟ مَن يَضمن حرّيّاتهم؟ مَن يَدعم جهودهم في مِهنة المتاعب الّتي تكاثرتْ عليها القيود منَ الاستعباد والاستبداد والإرهاب والإفساد؟ لَم يَكن جَمال أَوّل صحفيّ مغدور به؛ لكنّنا نَسعَى أن يكون الأخير؛ بملء الفم نقول: كفَى تهديدًا وخطفًا وتعذيبًا وقتلًا؛ كفَى دمًا.

هنيئًا لكَ هذا التّضامن العالَميّ أيّها الشّهيد؛ هنيئًا لكَ هذا الدّفاع الّذي لَم تُكلّفه ذات يوم؛ بلْ كلّفه ضميره الحيّ للدّفاع عنكَ وأنتَ الـميِّتُ الحيُّ…تَحسَّرتْ أسرتكَ لاغتيالكَ أشدّ الحسرة؛ وهي تَتقطّع أكبادها مِثل ما قُطِّعتَ جُثّتكَ بمنشار… تألّمتِ الشّعوب الـحُرّة للغدر بكَ؛ وأنتَ الصّحفيّ الـحُرُّ… بكيناكَ بِمدادٍ ودموعٍ… بكتكَ زميلتكَ كارين عطيّة بدموع ليست كالدّموع؛ كأنّها تقول لكَ: أرجو عودتكَ؛ أنتَ لَم تُكمل مسيرتكَ في “واشنطن بوست”؛ ولَم تُنشئ فيها قِسمًا باللّسان العربيّ؛ وهي أُمنيّتكَ…وذي خطيبتكَ خديجة جنكيز الّتي لَم تنسك.

هنيئًا لكَ اختيار منبركَ الصّحفيّ؛ وهنيئًا لـ “واشنطن بوست” باختيارها لكَ؛ نِعم الاختيار منكَ ومنها… هي حقًّا تَسعَى جاهدةً إلى كشف الحقيقة كُلِّ الحقيقة؛ احتضنتْ أمسٍ مدادكَ واليومَ تَحتضن دمكَ.

هنيئا لكَ “تَجمُّع الدّيمقراطيّة في العالَم العربيّ الآن” الّذي يُكملُ مسيرته مُناضِلون أمثالكَ.

هنيئا لكَ “جمعيّة أصدقاء جَمال خاشقجي” الّتي أضاءتِ الشّموع في عواصم العالَم؛ وهنيئا لكَ اليوم العربيّ للصِّحافة؛ وهنيئا لكَ تَسمية رمزيّة لشوارع باسمكَ؛ بداية من شارع مَشيتَه رَاجِلًا بإرادتكَ ذات خريف في تركيا؛ ودخلتَ قنصليّة بلدكَ بإرادتكَ؛ ولَم تَخرجْ بإرادتكَ للأسف الشّديد؛ ولا نَزالُ نُعيدُ مُشاهَدة خطواتكَ الأخيرة؛ ونحن نَحترقُ؛ ونَتصوّر الـمَشاهِد مَشهدًا مَشهدًا.

لَم يَحترمِ الـمِنشار وهو في أيدي الـمُجرم قلمكَ وهو في غمده؛ ولَم يَحترمْ قرّاءكَ الّذين يَنتظرون مقالكَ في “واشنطن بوست”؛ ولَم يَحترمْ أُسرتكَ الدّفيئة الّتي باعدتِ الظّروف بينكَ وبينها؛ ولَم يَحترمِ الـمِنشار قلب خطيبتكَ وهي تَنتظرُ “الأفراح” لا “الأقراح” خارج القنصليّة؛ ولَمْ يَحترمْ مدينتكَ الـمنوّرة الّتي تَشتاق إليها كُلَّ حين.

هنيئًا لكَ الـجَنَّة؛ دمكَ طاهر مِثل مدادكَ… نم هنيئًا سنبقَى صحفيّين أحرارًا؛ نم هنيئًا لَم نَنسَ ابتسامتكَ حين داعبتْكَ قِطّةٌ أَحسّتْ فيكَ بالأمان؛ الأمان نفسه وضعتَه في قنصليّة يُفترَض أنّ فيها الأمان –كُلَّ الأمان-.

لا ينتهي الحديث في “الإنترنت” وكُلّ وسائل الإعلام والصِّحافة عن الغدر بكَ؛ صورتكَ تَدخُل بيوتًا لَم تَعرفها ولَم تَعرفكَ؛ مدادكَ لا يَزالُ يُنير الدّروب الوعرة؛ ووصاياكَ لا تَزالُ تُداعبُ الحيارَى؛ وتُوقظُ النّائمين… إنّها بشائر خير؛ ها هو الضّمير العالَميّ حيٌّ؛ وقدْ يَرفع سقف مَطالِب الحرّيّة والعدل والشّفافية وحماية حقوق الإنسان وغيرها منَ الحقوق الفرديّة والجماعيّة.

حقيقة؛ لقدْ فاجأتْ جريمة اغتيال خاشقجي العالَم؛ وجرفتْ صقيعًا بيْن تركيا و”الـمَملكة العربيّة السّعوديّة” على مَضض؛ وبيْن تركيا و”الولايات الـمُتّحدة الأمريكيّة” بعْد فتور علاقة.

لا يَزالُ العالَم يَنتظر الحقيقة –كُلّ الحقيقة-؛ ولا يَزالُ الرّئيس التّركيّ رجب طيّب أردوغان يَنتظر أجوبة كثيرة عن أسئلة مُكرّرة لقادة “السّعوديّة” بشأن “الآمر بالاغتيال؛ وجثّة الشّهيد”؛ حيث تَظهر تسريبات كُلَّ آنٍ قَطرة قَطرة في وسائل إعلام وصحف تركيّة.

منذ أكثر من عامِ؛ ودّعنا قلم جَمال في الصّحف السّعوديّة والعربيّة؛ وأخيرًا ودّعنا في صحيفة “واشنطن بوست”؛ لكن هذه الصّحيفة لَم تُودِّعه؛ بلِ احتفتْ به واحتفلتْ بكتاباته الّتي لَم تَنشرها قبْل اغتياله؛ ونشرتْها بعْد الغدر به؛ وهي تَسعَى جاهدة إلى كشف حقيقة تهديد خاشقجي وتعذيبه وقتله وتقطيع جُثّته بمنشار؛ وإخفاء جُثّته حتّى الآن فتَكاثرتِ التّأويلات عن مكان جثّته؛ وزاد ذلك من دهشة العالَم.

لَم تشأ قُدرة الله أن يَتزوّج جَمال وخديجة؛ لكن تَمَّ “الوداع الأخير” دون أن يَعرفا خارج قنصليّة سعوديّة باسطنبول يوم الثّاني من أكتوبر؛ مِثل ما فاجأتهما الأُلفة فاجأهما الوداع.

كُنّا أَمسٍ نسأل: أين جَمال حيًّا؟ صرنا اليومَ نسأل: أين جَمال مَيِّتًا؟ لا يَزال الرّأي العامّ العالَميّ يَنتظر تفسيرات واضحة الـمَعالِم حول مُلابَسات اغتيال الصّحفيّ خاشقجي… ولا يَزالُ يَنتظر العدل كُلَّ العدل؛ ولا يَتصوّر الرّأي العامّ العالميّ ظلمًا آخر لـجَمال الكتابة ولـجَمال القلم؛ ولا يَتصوّر أحدٌ شهيدًا دون جُثّة؛ وكأنّ الـمُجرمَ لا يُريدُ قبرًا للمغدور به؛ لاسيما وأنّه أوصَى بدفنه في “مقبرة البقيع” بالـمَدينة الـمُنوَّرة.

يَظلُّ شِعار “الصِّحافة ليستْ جريمة” شِعارًا مُتوازنًا بكُلِّ المعايير؛ وفي أيّ مكان وأيّ زمان؛ ويَفخر به أهل الصِّحافة والحقوقيّون بشجاعة أدبيّة؛ لأنّ مُمارَسة الصِّحافة ليستْ للتّضليل بلْ هي للتّنوير. وهي مِرآة للمُجتمَعات والشّعوب والأُمم الّتي تَجتهد في بِناء حضارة يَشترك فيها جميع النّاس دون تمييز لعِرق أو جنس أو لون أو لسان أو دِين أو فكر أو سياسة أو جغرافيا… الصِّحافة منبر لكُلِّ فِكر حُرٍّ؛ الصِّحافة مِهنة نبيلة تُشرِّف أهلها… اغتِيلَ خاشقجي لكنِ الرّأي يَظلُّ حيًّا يا شهيد الرّأي.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com