التربية النفسية والسلوكيّة/ آمنة خنفري
قاعدة احترام الذات
من روائع الدين الإسلامي الحنيف أنه يسعى دوما إلى تحرير الإنسان من شتى الأمراض النفسية التي قد يتعرض لها الأفراد على مدار الحياة لاسيما عندما يعدهم بالأجر والثواب والمغفرة وقبول التوبة والجنة.
وهذا ما يعزز بسط روح الثقة والأمان والهدوء والراحة النفسيّة عند الإنسان المسلم، فعلى كل من الوالدين والأسرة والمعلّم والمجتمع والدولة والمتصدّين لعمليّة التربية، أن يجتهدوا في زرع الثقة والطمأنينة في نفوس الأبناء، فبذلك يتمكنوا من تحريرهم من تأثيرات الخوف والاضطراب والقلق والشعور بالدناءة والضعة والذل والمهانة وكل ما يؤدّي إلى سحق شخصيّاتهم وانهيارهم النفسيّ ليخرجوا إلى المجتمع الإسلاميّ صحيحين سالمين صالحين وذي شخصيات سوية مؤهلة لتحمل المسؤولية مستقبلا بصورة نافعة وعقلانية.
وتفيد بحوث وتجارب المحلّلين النفسانيّين والأطبّاء والعلماء وخبراء علم النفس وعلم الاجتماع، بأنّ جانباً كبيراً من السلوك البشري يتكوّن من استجابة داخليّة لمؤثّرات خارجيّة، مثل المال والجنس والجاه وغير ذلك، وأنّ ردّ الفعل المتكوّن عند الإنسان لكلّ منها إنّما يتحدّد بطبيعة ملكته النفسيّة، وقدرته على مجابهة ما يشعر بضرره له، فلا ينقاد إليه، وعلى هذا يتحدّد موقفه من هذا المؤثّر أو ذاك .
ومّما يذكر أن تربية الإنسان المتوازنة نفسيّاً وأخلاقـيّاً وسلوكيّاً لها أثرها الكبير على استقرار شخصيّته، وسلامتها من الأمراض النفسيّة، والعقد الاجتماعيّة والحالات العصبيّة الخطيرة وحالات القلق والخوف التي كثيراً ما تولّد لديه السلوك العدوانيّ، فينشأ فرداً مجرماً خبيثاً مضرّاً فاسداً في المجتمع، لذا فاحذر أيها المربي.
– الإهمال:
هو أسلوب تربوى ينشأ عن انشغال الوالدين أو غيابهما عن (الابن أو البنت) فينشأ لديه شعور بانعدام القيمة وانعدام الحب، ويجد صعوبة بعد ذلك في إقامة علاقة سوية مع الناس، فهو لا يستطيع أن يحب أحداً أو يحبه أحد، وهو فاقد القدرة على الأخذ والعطاء على المستوى الإنساني، لذلك ينشأ منطويا ومنكمشا، وإذا حدث وتزوج فهو غير قادر على الاهتمام الوجدانى بزوجته وأبنائه، لأن مستقبلات الحب والاهتمام والرعاية لديه لم تتعود على العمل قبل ذلك في أسرته الأصلية، وهذا الطفل المهمل ربما يميل إلى جذب الانتباه بأعمال إيجابية أو سلبية فيمكن أن يتفوق دراسياً، أو يتميز فى بعض الأعمال لكي ينال رضا وحب الآخرين، ويمكن أيضاً أن يكذب أو يسرق أو يعتدي لمجرد جذب الاهتمام، وأحياناً نجد هذا الشخص الذى عانى الإهمال في حياته المبكرة يستغرق كثيراً في عمله وينشغل به طوال الوقت ويجد فيه بديلاً وعزاءاً عن التعامل الإنساني الذى لا يجيده ولا يستمتع به، فالأشياء لديه أهم من البشر .
– النبذ (الرفض):
وقد يبدو غريباً للوهلة الأولى أن ينبذ الأب أو الأم طفليهما، ولكن هذا يحدث فعلاً في الواقع ولنضرب لذلك بعض الأمثلة: الأم التي تزوجت رجلاً لا تحبه ولا ترغب في استمرار العلاقة به ربما ترفض ابنها أو ابنتها منه (بوعي أو بدون وعي )… والأب الذي يشك في سلوك زوجته كثيراً ما يرفض أبناءه منها لأنه يشك في انتسابهم إليه … والأم التي أنجبت عدداً كبيراً من البنات ثم رزقت ببنت أخرى وهي لم تكن ترغب في ذلك .. أو الأبوان المشغولان اللذان رزقا طفلاً لم يستعدا- حسب رأيهما – لاستقباله …..الخ كل هذه نماذج لحالات يمكن أن يعاني فيها الطفل من الرفض ( الواعي أو غير الواعي لا فرق)، وهذا الرفض يصل إليه في صورة معاملة قاسية وعدوان لفظي أو جسماني أو حرمان مادي أو عاطفي متعمد أو حتى تهديد لحياته، لذلك فهو يعيش في جو غير آمن ولا يستطيع أن يثق في أبويه وبالتالي لا يثق في أحد أبداً وينشأ قاسياً عدوانياً متسلطاً ويعتبر الرحمة ضعفاً ويحاول جاهداً أن يعلو على الآخرين ويتملكهم بالقوة والسيطرة لا بالحب الذي لا يعرفه.
– القسوة:
تتمثل في استخدام أساليب التهديد والحرمان أو استخدام أساليب العقاب البدني مما يترتب عليه خلق شخصية عدوانية متمردة تنزع إلى الخروج على قواعد السلوك المتعارف عليه كوسيلة للتنفيس والتعويض عما تتعرض له من ضروب القسوة.
– الطردُ من المنزل:
قد يلجأُ بعضُ الآباءِ للتخلصِ من أذى ولده وعدم طاعتهِ له بأن يطردهُ من البيت، مما يؤدي إلى لجوء الأبناء إلى رفقاء السوء واكتساب العادات السيئة كالتدخين والمخدرات والمعاكسات وغيرها.
– تدخل الآخرين في التربيةِ:
لكي لا تتضارب الأفكار والمفاهيم وتتبعثر القواعد والحدود التي وضعتها لحماية طفلك لا تسمح للآخرين أن ينوبوا عنك في أداء مهمتك لاسيما إذا كانت التربية قد لا تتلاءم مع المبادئ الإسلامية وقد لا تواكب العصر. كتدخلِ الجدِّ في تربيةِ الولد، فيُعطي نتيجةً سيئة، لأن الجد سيعطيك تجاربه وخبراته السابقة، التي قد لا تُناسبُ هذا العصر؛ مما يؤدي إلى تشتت الأبناء وأحيانا إلى الدلال الزائد والميوعة في التصرفات وهذا لا يعني أن نلغي دور الجد إذا كانت التربية إيجابية.
– التسلط:
ويعني فرض الأب لرأيه على الطفل والتعرض لرغبات الطفل التلقائية والحيلولة دون تحقيقها حتى ولو كانت مشروعة، ويؤدي ذلك إلى أن ينشأ الطفل فاقدا الثقة بنفسه ويشب خائفا خاضعا للآخرين سهل الإصابة بالاضطرابات النفسية.
– احتقار الأم والاستهتارُ بها على مسمع من الطفل:
لأنه في هذه الحالةِ إما أن يكرهك لأنكَ احتقرت أُمه، أو أنهُ يكتسبُ هذه الصفةُ منك، فلا يحترمُ أُمه، وبالتالي فلا يطيعها في سبيلِ تربيته، فتكونُ أنت الخاسر إذا فقدت مساعدةَ الأم في تربيته.
– التدليل:
ويحدث كثيراً من الطفل الأوحد، أو الولد الوحيد وسط أخوات، أو البنت الوحيدة وسط ذكور، أو المولود الذى جاء بعد فترة عقم أو بعد وفاة عدد من الأطفال قبله، أو الطفل الأول أو الأخير … وهكذا.
والطفل المدلل يتعود على درجة عالية من الاهتمام من كل من حوله فهو مركز الأسرة ومحور اهتمامها، وكل طلباته مجابة، وهو يأخذ كل شيء ولا يعطي أي شيء فليس مطلوباً منه أن يعطي يكفي فقط وجوده لسعادة الأسرة، ولهذا ينشأ أنانياً محباً لذاته ومولعاً بها إلى درجة النرجسية، وهو بالتالى غير قادر على تحمل مسئولية الدراسة أو العمل أو الزواج.
وهو حين يتزوج يميل إلى اختيار زوجة تقوم بدور الأم البديلة لكي ترعاه وتلبي كل احتياجاته ويكون غير قادر على العطاء المادي أو الوجداني لها ولأولاده منها فمراكز العطاء عنده لا تعمل لأنها لم تتعود على العمل قبل ذلك، وفي المقابل فإن مراكز الأخذ لديه نشطة طوال الوقت.
**********
الحلقة الثانية
– الحماية الزائدة:
وغالباً ما تتورط الأم في هذا النمط التربوي خاصة في غياب الأب أو نتيجة لعوامل شخصية فيها مثل الوحدة وعدم الإحساس بالأمان فتسقط هذه المشاعر على طفلها فتحوطه برعاية زائدة وحب خانق وتراقبه في كل حركاته وسكناته ولا تسمح له بالخروج إلا للضرورة القصوى ثم تقف في النافذة تنتظر عودته على أحر من الجمر، ولا تسمح له بالاختلاط بغيره من الأطفال أو النزول إلى الشارع وتسوق لذلك حججاً كثيرة منها أنه يتعلم ألفاظاً نابية من الأطفال أو أنه ضعيف البنية أو أن المنطقة التي يعيشون فيها غير آمنة…إلخ .
وهذا الطفل ينشأ مسلوب الإرادة فاقدا للمهارات الاجتماعية اللازمة للحياة، ويعيش في تبعية لأمه ثم لزوجته بعد ذلك فهو يختار زوجة متسلطة (مسترجلة) تقوده وتحميه كما كانت تفعل الأم، وهو لا ينضج أبداً بل يظل طفلاً ضعيفاً غير مسؤول ولا يستطيع القيام بواجباته المدرسية إلا في وجود الأم بجانبه وأحياناً يظل ينام بجانبها في سرير واحد حتى بعد أن يتجاوز العشرين أو أكثر من عمره. وربما تأتي الأم لتشكو من سلبية ابنها واعتماديته عليها ولكنها بدون وعي تريده أن يبقى هكذا لكي تضمن بقاءه في حضنها مهما كانت النتائج.
وفى بعض الأحيان يتمرد هذا الطفل على أمه أو أبيه في سن المراهقة ويكسر حاجز الحماية الذى نصباه حوله ويصبح عدوانياً وقحاً كرد فعل للحماية الزائدة التي فرضت عليه وربما يبالغ في الدخول إلى كل مجالات الانحراف التي كان يخشاها أحد الوالدين أو كلاهما.
***********
– التربية الدينية المتشددة:
وفيها يلجأ الوالدان إلى اتباع القواعد الدينية في العملية التربوية، وهما في هذه الحالة يشعران بالأمان التربوي حيث أنهما يعتقدان أنهما ينفذان التعاليم الربانية العليا في تربية طفلهما، وهما يربطان التعليمات التربوية بالتعاليم الدينية وبذلك يتجنبان الصراعات الشخصية مع أبنائهم فالأمر كله لله، وهو الخبير بعباده وبما يصلحهم أو يضرهم لأنه هو خالقهم ونظامه التربوي سبحانه وتعالى هو أفضل النظم على الإطلاق.
ومع كل هذه الاعتبارات السابقة نرى في الأسر المتدينة مشاكل عديدة ليس سببها المنهج التربوي الإلهي وإنما سببها طريقة فهم الآباء والأمهات لهذا المنهج وطريقة تطبيقه في الحياة اليومية لأبنائهم، فكل أب وكل أم يختار من النصوص الدينية ما يتلاءم مع طبيعة شخصيته ويفسرها حسب ميوله واتجاهاته ويطبقها أيضاً طبقاً لهذه الاعتبارات، وربما يبدو هذا منطقياً ومتوقعاً فالتدين فى النهاية سلوك بشري يمكن أن يتفق أو لا يتفق مع المنهج الإلهي، ولكن المشكلة في هذا النوع من التربية أن الآباء أو الأمهات حين يخطئون فهم غير مستعدين لتصحيح ذلك لأنهم يعتقدون أن ما يفعلونه هو الصواب المطلق وأن ما عداه خطأ ولذلك يفتقدون المرونة التربوية بل ويحاولون فرض رؤيتهم الدينية على الأبناء باعتبار أنه لا خيار لأحد أمام النصوص الدينية المطلقة، وفي هذا المناخ إما أن يخضع الأبناء لرؤية الآباء وتفسيراتهم للنصوص الدينية ويصبحون مقلدين في الغالب وإما أن يتمردوا على تلك التفسيرات وربما يتمردوا على كل ما هو ديني لأنه يذكرهم باستبداد والديهم وتحكمهم.
أما إذا كان المنهج الديني والتعاليم الدينية تسرى في جو الأسرة من خلال القدوة الحسنة والنماذج المتوازنة المحبوبة في الوالدين فإن الحالة التربوية تكون في أفضل أوضاعها حيث الإيمان بالله يفتح في نفوس الأبناء آفاقا هائلة للحب والعطاء والرحمة والتسامح والإيثار في جو من القداسة المفعمة بالدفء الوجداني العميق.
– التربية العفوية (الفطرية):
ويميل إليها سكان القرى والمستويات الاجتماعية البسيطة وهي تعني غياب تصور مسبق للتربية لذلك يعتمد الوالدان على ردود أفعالهما الفطرية العفوية في المواقف المختلفة، فهم كآباء وأمهات يحبون أبناءهم وبناتهم ويعملون بشكل طبيعي وتلقائي من أجل مصلحتهم، وهذا يكفي (في نظرهم)، خاصة وأنهم -أي الآباء والأمهات – قد تربوا بهذه الطريقة البسيطة وهم يرون أنها صالحة لأبنائهم.
ويستشهد المتحمسون لهذه الطريقة التربوية بآباء وأمهات بسطاء جداً لم يحصلوا على أي قدر من التعليم وقد ربوا أبناءاً وبناتاً تقلدوا أرفع المناصب ووصلوا إلى أعلى الدرجات العلمية والثقافية.
وتتميز هذه الطريقة بالبساطة والعفوية كما تتميز بوجود قدر كبير من المشاعر التلقائية بين الآباء و الأبناء، وتتميز أيضاً بالمرونة في المواقف المختلفة، ولكن يعيبها عدم ثبات نتائجها فهء أحيانا ًُتنجح نجاحاً واضحاً والنماذج على ذلك موجودة فعلا، وأحياناً أخرى تفشل فشلاً ذريعاً، وحيثما لا توجد قواعد واضحة يصعب بالتالي التنبؤ بالنتائج.
– التربية العقلانية (السيكولوجية):
وهذا الأسلوب التربوي يميل إليه المتعلمون والمثقفون والمنتمون إلى الطبقات الاجتماعية الأعلى وذلك بحسب تركيبتها العقلانية الراشدة وبحسب ما يتاح لهم من قراءات نفسية توضح لهم قيمة الحرية والاختيار والمسئولية لهم ولأبنائهم على السواء، كما أن هذه الطبقات بطبعها لا تميل إلى العقاب البدنى أو حتى اللفظى . وربما يميل إلى هذا النموذج أيضاً الآباء والأمهات فاقدي أو ناقصي المشاعر الوالدية الطبيعية وخاصة النساء المسترجلات اللاتي لا تسعفهن مشاعر الأمومة الفياضة فتجد الواحدة منهن تهرع إلى الكتب النفسية أو إلى المتخصصين فى التربية تبحث عن إجابة لكل صغيرة وكبيرة في حياة طفلها، وبالتالى تكون استجاباتها كلها (أو معظمها) مبنية على توجيهات علمية خارجية وبالتالى ينقصها التلقائية وينقصها الجانب الوجدانى، ولهذا تجد في عيون أبنائها آثار حرمان عاطفي لا تخطئة العين الخبيرة.
ويشير الدكتور الحفني إلى الوجه الآخر للتربية العقلانية (السيكولوجية) بقوله:
” ومن ناحية أخرى فقد يؤدي الغلو في اللجوء إلى الطرق السيكولوجية في التربية إلى أن ينمو الطفل عقلانيا وشديد الانتماء فيسلبه ذلك قدرته على المبادرة والتصرف بعفوية، حيث تقتضي العقلانية أن يكثر التفكير في الأمور ويتردد قبل أن يقوم بعمل ما، ويقتضي انتماؤه أن يفكر في إرضاء الناس فيعمل وفق هواهم”.
وهكذا نجد أنه على الرغم من أن النمط العقلاني (السيكولوجى) يرتكز على قواعد تربوية علمية وبالتالي يمكن التنبؤ بنتائجه إلا أن المبالغة فيه تأتي على حساب نمو الجوانب الوجدانية التلقائية والطبيعية، فيكون الطفل أشبه بنبات (الصوبات) شكله جذاب لكن طعمه مائع.
فالمغالاة في السلوك التربوي سواء أكان بطريقة علمية أو عفوية قد يؤدي إلى نتائج سلبية لذا فلا إفراط ولا تفريط فالاعتدال والوسطية هو السبيل الوحيد للنجاح في المهمة التربوية واعلم أنك تتعامل مع إنسان وليس مع شيء جامد.
لذا فالتربية هي مهمة ربانية ودعوة إلهية إلى الصراط السوي ولبلوغ هذه الغاية النبيلة والسامية عليك بالقول والسلوك اللين الذي يوقظ القلب ويحرك العقل والوجدان.
ونحن بصدد الحديث عن الجانب النفسي يحضرني حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام:(ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه)، (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) ونجاح محمد عليه الصلاة والسلام في تبليغ رسالة الإسلام جاء نضير الرفق ورحابة الصدر والصبر {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
**********************
الحلقة الثالثة
نموذج الممارسة المرنة:
إن المقصود بهذا النموذج هو تلك السلوكيات الثابتة أو القواعد العامة لبعض الآباء والتي يمكنها أن تتعدل حسب الظروف بحيث لابد للطفل أن ينام مثلا في وقت محدد ولكن إذا كان يوم الغد عطلة يمكنه أن يسهر، ويشاهد التلفاز حينما يرغب لكن باحترام بعض الشروط ومنها نوع البرامج ثم زمن ومدة الإرسال. وبإمكانه أن يزاول الأنشطة التي يرغبها ولكن بشروط. وهذا يعني أن القواعد ليست هنا جامدة بل تتقولب تبعا للظروف والأحداث، وإذا كانت هذه الممارسة تمثل في آن واحد خاصيات الممارستين الصارمة والضعيفة، فإنها تعتبر أكثر ملائمة للتربية الهادفة وتوجد في الغالب لدى الآباء من الفئات الاجتماعية الميسورة أو المحظوظة. فضمن هذا النموذج تدخل الممارسات التربوية للآباء المنتمين إلى الأوساط السوسيواقتصادية والثقافية المرتفعة أو المتوسطة على أكثر تقدير. ومادام أن “هذه الأوساط هي القادرة في الغالب على تلبية جميع رغبات أبنائها فإن حظوظ هؤلاء عادة ما تكون وافرة لكي يتربوا بطريقة أفضل ويتعلموا بصورة أجود”(الطيب 1990م، ص 21).
والحقيقة أن نموذج الممارسة المرنة هذا هو الذي يعكس مواصفات الممارسات التربوية الوالدية الصحيحة التي توفر الإشباع المنتظم لحاجيات الطفل والمتمثلة في نظر جل الباحثين المرونة، الحرية، التقبل، التسامح، العدل، الحوار، الالتزام، العقلانية، التأطير والدفء الوالدي. فالطفل الذي يترعرع في كنف هذه الممارسة التربوية المرنة عادة ما يتميز بسمات الشخصية السوية المتمثلة أساساً في الثقة في النفس والتقدير العالي للذات وتحمل المسؤولية والشعور بالأمن والكفاءة في التحصيل وفي التواصل والمهارة في حل المشاكل ومواجهة مواقف الحياة المختلفة.
أ)- تجمع نتائج أغلب الدراسات السيكولوجية، الغربية والإسلامية، على أن نموذج الممارسة التربوية المرنة يتميز بتأثير إيجابي أكثر من نموذجي الممارسات الضعيفة والصارمة.
ويصف الدكتور عبد المنعم الحفني هذا النموذج التربوي في الموسوعة النفسية الجنسية (الطبعة الأولى 1992 – مكتبة مدبولى) بقوله “ وليس أجدى في التربية مما يسمى بالطرق السيكولوجية فهي أفضل في نتائجها من الضرب والتهديد والتقريع وكم من طفل استقام أمره بحثه على التعقل واستنفار قواه الذاتية، نتيجة ما يستشعره من تأنيب ضمير أو ذنب. وإنه لمن المفيد ألف مرة أن يظهر الأب أنه مستاء أو غير راض دون أن يضرب ابنه أو يهدده أو يقرعه. ولا يفعل العقاب سوى أن يزيد الطفل العدواني عدوانية ويملأ قلبه بالكراهية لأبويه“
احترام الذات هو إحساس داخلي وصورة ذهنية يحتفظ بها الإنسان لنفسه، إحساس بالنفس الذي يتأتى من الشعور بالمقدرة و الجدارة، وهو يعبر عن الصحة العقلية والنفسية، وعدم احترام الذات وانعدام الثقة بالنفس يؤدي إلى أمراض نفسية وأخرى اجتماعية كالخوف من الفشل والإدمان على المخدرات والكحول والبغاء والجريمة البشعة و..الخ
الأطفال الذين يعانون من ضعف إحساسهم بذاتهم يسيطر عليهم إحساس بالضآلة، وبالتالي فهم يتصفون بالصفات التالية:
- خجولين يهابون طرق مجالات جديدة ومقابلة أناس جدد.
- يعتمدون على أبويهم في أبسط القرارات.
- يسبب لهم النقد خزيا وحرجا شديدا.
- يكبلهم الخوف من الفشل.
- يسحقهم الفشل مهما كان صغيرا.
- يهتمون بشكل مبالغ فيه بالتفوق.
- في حاجة دائمة للتأييد والمساندة.
- وتعود “دولتو” إلى التمييز بين الرغبة والحاجة لدى الطفل فتقول بضرورة تحقيق حاجات الولد وبضرورة عدم تحقيق رغباته فور تعبيره عنها. «تختلف الرغبات عن الحاجات لكونها تستطيع أن تقال وان تحقق بطريقة رمزية وخيالية، بينما تكون الحاجات ضرورية للاستمرار في العيش وهي متعددة كالنظافة والدفء والاكل والشرب». وهي تنصح الأهل بعدم ارضاء رغبة أولادهم بل حثهم على التعبير والكلام عنها وعلى محاولة تحقيقها بأنفسهم وتعطي أمثلة كثيرة على ذلك:« انظروا إلى ولد يرغب في ألعوبة لا يمتلكها، طائرة صغيرة مثلا ترونه يخترع اي شيء. فأي غرض أو أي طرف من غرض موجود أمامه يتحول إلى طائرته التي يرغب فيها. أما إذا حققت رغبته بشراء الطائرة فورا فذلك يحول دونه ودون خلق أي شيء، إذ يبدأ بكسر ألعوبته وبالمطالبة بطائرة أخرى لأنه لم يعد قادرا على خلقها بنفسه.
فالإبداع والخلق اشكال تتخذها الرغبة لتحقيقها وتخطيها لذاتها في آن معا، أي في تطور الرغبة في الرغبة والترميز والإبداع والخلق وغيرها». غير أن «دولتو» لا تقول بعدم تحقيق أية رغبة عند الطفل بل بضرورة الكلام مع الطفل عن هذه الرغبة وذلك بالدخول في تواصل معه حول رغبته وتحويل العالم أمامه الى عالم غني باللغة، عالم من الرموز والكلام والمفردات ومن الوعود باللذة.
تطبيق القاعدة:
– اغرس في نفس طفلك الشعور بالطمأنينة والأمان وذلك بالمواظبة على الصلاة والدعاء والذكر الذي هو نور العقل وحياة النفوس وجلاء الصدور.
– أشعر طفلك بأنه مرغوب فيه وذلك عن طريق إشباع رغباته العاطفية عوض الوقوف فقط عند الرعاية البيولوجية، فالطفل في حاجة إلى هذه الممارسات لكي يشعر بأنه مقبول من طرف والديه لكنه في المقابل يكون في أمس الحاجة إلى الحرية لكي يحقق لاحقا استقلاليته.
– أثبت لطفلك أنه جدير بالحب ويستحقه وذاك بأن يكون حبك له واضحا وغير مشروط عندما يحقق نجاحا أو يواجه فشلا.
– احذر المفاضلة بين الأبناء فهذا السلوك يؤدي إلى تفشي الحسد والغيرة والكراهية والانتقام وكلها أمراض نفسية جد خطيرة تؤدي هي الأخرى إلى الانحراف في الشخصية.
– ذكر طفلك أن ما يفعله بغض النظر عن نتيجة محاولاته يشكل أهمية لك ولمعلميه ولأصدقائه ولنفسه على وجه الخصوص.
– شجع طفلك على المشاركة في كل أوجه الحياة في المدرسة، والمسجد، والرياضة، والنوادي، والهوايات، والعمل، والأصدقاء.
– علم ابنك الاعتماد على النفس الذي يقود إلى الاكتفاء الذاتي، وذلك بأن ترفض تدليله أو تقديم العون له في كل مرة يطلب فيها المساعدة، اعلم أن الرد على أبنائك بكلمة “لا” خير مئات المرات من كلمة “نعم” ينتج عنه أبناء أكثر سعادة وأكثر اعتمادا على النفس.
وإذا عاقبت أيها المربي فعليك باتباع القواعد الصحيحة للعقاب
إذا اضطررنا إلى العقاب أثناء عملية التربية فيجب أن نتبع القواعد التالية حتى يستفيد الطفل:
* يجب أن يعرف الطفل الأشياء التي تستوجب العقاب مسبقًا، بمعنى أن هناك قواعد واضحة في البيت أو المدرسة لما هو صحيح وما هو خطأ.
* أن يتم تحذير الطفل بأن تجاوزه للقواعد المعروفة والمعلنة سوف يعرضه إلى العقاب.
* أن يكون العقاب إصلاحيا لا انتقاميًا، أي ليس بسبب الحالة المزاجية المضطربة للأم أو للأب .
*أن يكون في مصلحة الطفل لا في مصلحة المربي صاحب السلطة، فبعض الأمهات يضربن أطفالهن لأنهن يشعرن بالراحة بعد ذلك؛ فقد نفسن عن مشاعر غضب لديهن .
* أن يكون العقاب متدرجًا ومتناسبًا مع شخصية الطفل، فالطفل الذي تردعه النظرة لا يجب توبيخه، والطفل الذي ينصلح بالتوبيخ لا يجب ضربه… وهكذا.
* أن يكون العقاب متناسبًا مع الخطأ الواقع.
* أن تكون له نهاية، فمثلًا نقرر حرمان الطفل من المصروف لمدة ثلاثة أيام يأخذ بعدها المصروف.
* أن يشعر الطفل أن العقاب وقع عليه بسبب سلوك سيئ فعله، وليس لأنه هو نفسه سيئ .
(اجعل من احترام الذات منظومة قيم لعائلتك)