عن اغتيال المستقبل ..أتحدثُ/ حسن خليفة
في كتابه “تنشئة الأطفال وثقافة التنشئة” يتحدث الأستاذ عبد الواحد علواني عن أن ” دراسة الطفولة ـ في العالم العربي – لم تأخذ حقها ولا مداها، بل يقتصر الأمر على محاولات مبعثرة ومشتّتة لا تلقى أي صدى في المجتمع”(ص 30). أما الدكتور سليمان العسكري فيذهب إلى أبعد من ذلك حيث يقول في كتابه الذي يحمل عنوانه: دلالات مهمة وعميقة وهو “الطفل العربي ومأزق المستقبل” ..يرى الأستاذ العسكري أن الأسرة العربية المسلمة ـ والتي تبدو أفضل حالا بعض الشيء في تماسكها الاجتماعي ـ ولكنها(الأسرة)..” قليلة الإمكانات، محدودة الحركة، لا توجد مؤسسات تساعدها ولا قوانين تحميها، اقتصاديا أو سياسيا، وبالتالي فهي عديمة الفاعلية في أحيان كثيرة لا تستطيع أن توفر لأفرادها الحماية، كل ما في الأمر أنها تعطيهم قدرا من المحبة ثم تدفع بهم عراة لمواجهة أقدارهم في عالم بالغ المشقة .”
…
ربما كانت هذه المقدّمة مناسبة للكشف عن الهدف من هذه المقالة القصيرة، والتي أرغب بشدة في أن تكون صرخة..نعم صرخة حقيقية عالية النبرة، عن واقع الطفولة في وطننا خاصة.
إن طفل اليوم هو شاب الغد..وهو رجل المستقبل، وهو أيضا..امرأة المستقبل، بالنسبة للفتيات..بما يعني أن الطفولة على نحو أو آخر هي المستقبل. فكيف نصف ما يجري في هذا الشأن في تعاملنا مع الطفل الطفولة.
والجواب الصريح: يمكن القول: إن ما نقوم به إنما هو “اغتيال” للمستقبل ..اغتيال حقيقي؛ بالإهمال، والجهل، وقلة العناية، وضعف الإلمام بأصول التربية، ونقص فادح في المنشآت والهيئات والبيئات والفضاءات والمؤسسات التي تعتني بالطفل والطفولة، على كل صعيد وفي كل مكان.
وإذا كانت الأبحاث والدراسات في مجال الطفل والطفولة، كما سبقت الإشارة، شحيحة وفقيرة وضحلة وقليلة حتى من ناحية الكمّ، وأقل من القليل منها مما له وزن وقيمة علمية، ينام في رفوف المكتبات الجامعية ومراكز الأبحاث..إذا كان الأمر كذلك في المجال الدراسي العلمي، فهو في الواقع المعيش أتعس وأنكى وأشد إيلاما وأبشع قبحا..
تعالوا نستعرض هذه المشاهد في حياتنا؛ حيث تمتلئ الشوارع بالأطفال:
- حيث يلعبون في الأزقة والشوارع، لأنهم لا يجدون المكان المناسب للعب والاستراحة والترفيه؛ وقضاء أوقات جميلة يخرجون فيها ما لديهم من طاقات.
- وحيث يوجد منهم الآلاف يكابدون ويعملون أعمالا شاقة، يشتغلون من أجل لقمة العيش، وقد تركوا وراء ظهورهم الدراسة والتعليم اختيارا أو اضطرارا.
- وحيث يوجد الآلاف منهم ـ إن لم نقل عشرات الآلاف ـ في أسر وعوائل يقلّ فيها كل شيء، فلا يجد هؤلاء الأطفال المعاملة الطيبة، ولا يجدون القدر اللازم من العواطف والدفء الإنساني، لأسباب مختلفة: طلاق، تمزق أسري، تفكك عائلي، شجارات ونزاعات بين الكبار أسرا وعوائل بسبب الميراث أو نزغ شياطين الإنس والجنّ .أما الرعاية التامة والمرافقة الدراسية وتحقيق الاكتفاء الكامل من كل ما يجب فحلم من الأحلام المستحيلة..هذا دون أن نتحدث عن الأيتام وأشباه الأيتام وما أكثرهم، وهم لا يجدون أي شيء تقريبا لا ماديا ولا معنويا.
تعالوا نتساءل …
في ضوء هذه اللوحة القاتمة التي يعرف الكثيرون منا تفاصيلها؛ لأنهم يعيشونها في واقعهم ويعرفون جيدا ماذا يحدث وكيف يحدث..في ضوء هذه اللوحة نتساءل:
ما هي مسؤولية الهيئات المفترضة التي يمكن أن تؤدي أدوارا مهمّة في هذا المجال المهم هو الإعداد الجيد لرجال ونساء المستقبل؟.
فلننظر إلى المدرسة، وإلى الشارع، والمسجد، والإعلام، والأسرة، والعائلة الكبيرة ولنسأل: ماذا تقدم كل تلك الهيئات (هيئات التنشئة) ماذا تقدم للطفل؟ وأي جهود بذلتها وتبذلها؟ وأي برامج أعدت وهيئت؟ وأي أهداف حققت وأي نتائج أنجزت ..؟
أسئلة كثيرة يغلب على الظن أن إجاباتها ستكون مؤلمة؛ لأنها ستكون سلبية في الغالب. والواقع المعيش خير دليل وأكبر برهان..إن الآلاف من الأطفال بنين وبنات، كما نراهم يوميا ضحايا إهمال كلي أو جزئي.
لم يتحقق لهم الحدّ الأبسط من تلبية احتياجاتهم الضرورية، وما أكثرها، وما أشد أهميتها في إعدادهم للحياة المستقبلية.
هل من حقّنا أن نضيّع حقوق أجيال متلاحقة، فقبل خمسين عاما لم نهتمّ بالطفل والطفولة لأسباب وظروف تاريخية وملابسات نتائج الاستقلال وضعف الدولة وقلة الإمكانات، وضعف المورد البشري المتخصص.. ولكن ماذا عن اليوم..عن الوقت الحاضر في خاتمة الربع الأول من القرن الحادي والعشرين ماذا فعلنا وماذا قدّمنا؟ وما هي برامجنا وخططنا؟ وما هي انجازاتنا ـ سلطة ومجتمعا ـ؟
مازال الوضع على حاله، إن لم يكن ساء في ميادين معيّنة، ومنها هذا الميدان الكبير الطفل والطفولة.
مازلنا ندفع بهم عراة ليواجهوا أقدارهم، ومازلنا نسلك نفس المسالك الوضيعة في الإهمال والتحقير والتربية السيئة وقلة العناية.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك ما يعرفه المجتمع من “تمزّق” وغلبة الأنانية وسيطرة الماديات، ووفرة الطلاق وما يتصّل به من نزاعات مؤلمة وانتقام وشرور..
أين الطفل؟ أين حقوقه؟ أين العناية به؟ أين البرامج الخاصة التي تندرج في خطط العناية بالمستقبل؟.
أخشى ما أخشاه…بعد ثلاثين سنة أخرى من الآن…سنقف على نفس النتائج التي انتهينا إليها بعد خمسين سنة من الاستقلال. المقدمات تُسلمُ إلى النتائج، والنتيجة من جنس العمل.الإهمال والحرمان وسوء التربية وقلة الاهتمام وغياب الإعداد والاستعداد تنتج جيلا “معّوجا” بلا قيمة. وتنتج مستقبلا غامضا أسود.ومن يزرع الريح يحصد …