قراءة في تاريخ الجزائر في عصوره الثلاثة مع الباحث والأستاذ الجامعي د- علي تابليت/ سعدي بزيان
قليل هم أولئك الذين تجشموا مشاق السفر ورحلوا في بلاد الله الواسعة ليس بحثا عن المال أو الجاه أو السلطة، بل بحثا عن الوثائق والمصادر ذات الصلة بتاريخ الجزائر في عصوره الثلاثة انطلاقا من مكتبات فرنسا أو أرشيفاتها. مرورا ببريطانيا وانتهاء بمكتبات أمريكا، وجامعاتها، الغنية بالمراجع والوثائق القيمة التي لا تتوفر عليها الجامعات العربية مغربا ومشرقا، وها هو باحث جزائري الدكتور علي تابليت يرحل بنا في بطون أمهات الكتب، والوثائق بلغة إنجليزية –وفرنسية – ويعود إلينا في رحلته هذه بثلاث مجلدات في تاريخ الجزائر في العهود الثلاثة:
المعهد العثماني: الجزء الأول، مستهلا ذلك بمقدمته وتقديم صورة عن الجزائر في القرن السادس عشر.
ومعاهدة السلام والصداقة بين الجزائر والولايات المتحدة سنة 1795 مع لمحة عن العلاقات الجزائرية إبان عهد الداي حسن باشا 1796-1797 ورغم وجود علاقة السلام والصداقة بين الجزائر والولايات المتحدة فإن الأمور سادها توتر فيما بعد بين البلدين بل بين الولايات المتحدة والمغرب العربي.
بدأت فكرة البحث لدى الباحث في الفترة العثمانية في الجزائر، يقول بهذا الصدد:”بدأ اهتمامي بالبحث في تاريخ الجزائر في الفترة العثمانية منذ سنة 1981، عندما ذهبت إلى باريس في منحة للدراسات العليا ويومها تعلمت طرق البحث في المكتبة الوطنية في باريس وواصلت استمراري في البحث عند العودة إلى الوطن وكان اهتمامي منصبا أكثر على العلاقات بين الجزائر والولايات المتحدة الأمريكية بعد استقلالها سنة 1776م وتأكد لدي أن البحث في هذا الموضوع يتطلب مني رحلة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا للإلمام بالبحث في هذا الموضوع دون دعم من أي جهة ما. فخاض معارك التصوير لأبرز الوثائق ذات الصلة بالموضوع التي عثر عليها في المكتبة الوطنية الفرنسية ومكتبة السوربون والأرشيف الوطني الفرنسي وراسل مكتبات الكونغرس وجامعة هارفرد العتيقة وجامعة ميشغان ووجد كل التعاون من طرف رؤساء هذه المكتبات، والجامعات فهو يثني على الجميع في هذا البحث، واستغرق بحثه هذا من أجل إعداد الدكتورة 27 سنة كاملة وتوج عمله هذا بشهادة الدكتوراه تحت إشراف د-ناصر الدين سعيدوني، وقد أثنى د- تابليت على مؤسسة د-عبد الجليل التميمي صاحب المؤسسة العلمية التي تحمل اسمه في تونس ومن خلال هذه المؤسسة شارك د- تابليت في ملتقيات عديدة وشارك في الكتابة في إحدى مجلاته (3 مجلات) واكتسب معرفة وعلاقات مكنته من المشاركة في ملتقيات دولية، ولم ينس الدكتور تابليت وهو يرحل بنا في 3 عصور من تاريخ الجزائر أن يشكر أستاذه المرحوم د-عبد القادر زبادية الذي كان معه في لندن وهو الذي اقترح عليه موضوع البحث في العلاقات الجزائرية الأمريكية كموضوع “أطروحة والتي ناقشها د-تابليت في 21 جوان 2007 بجامعة الجزائر، وكان لصاحب هذا المقال شرف الحضور “حضور المناقشة”.
الولايات المتحدة الأمريكية والفكر التوسعي بالأمس واليوم
وما أن أخذت بأسباب التطور حتى ظهرت لديها فكرة التوسع وهكذا خاضت حربا بحرية مع البلدان المغاربية بدءا من ليبيا طرابلس الغرب وانتهاء بالجزائر وكان ذلك سنة 1801 واستمرت هذه الحروب إلى غاية 1815 وقد أخذت هذه الحروب اسم:”الحروب ضد البربرية” وكانت البحرية الجزائرية يومئذ تزعج الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وقد درس الباحث مراحل الفترة العثمانية بالجزائر وسكان الجزائر وعلاقة السكان بحكم الدايات –كما قدم لمحة عن يهود الجزائر في الفترة العثمانية التي استغرقت في الجزائر من 1516 إلى احتلال الجزائر 1830 أي أكثر من 5 قرون وعادة اليهود أينما حلوا تجدهم يلبسون لكل حالة لبوسها وهم أكثر الناس استعدادا للتوغل الاقتصادي والمالي، فاستطاعوا في الجزائر أن يصبحوا هم الخصم والحكم في عهد الداي حسين، فقد تحكموا في التجارة استيرادا وتصديرا، ويمكن القول بدون مبالغة أنهم ساعدوا الاحتلال والمحتلين وتنكروا للمعاملات التي وجدوها عندما فروا من إسبانيا كذلك مصالحهم تعلو فوق كل شيء وموقفهم من ثورة نوفمبر 1954 -1962، خير دليل ولا نستثني إلا فئة قليلة منهم لا تكاد تذكر ويقول د-علي تابليت أنني بعد أن قدمت لمحة عن وجود اليهود في الجزائر رأيت أن أقدم الجانب الآخر عن هذا الوجود واختار أن يقدم دراسة حول مؤسسة تجارية يهودية تملكها عائلة بكري التي وفدت على الجزائر من منطقة “ليفورن الإيطالية مع مجموعة من اليهود طاب لهم المقام في الجزائر وقد منح الداي امتيازات كبيرة لعائلة بكري وبوجناح وسرعان ما أصبح الاقتصاد الجزائري رهينة في أيدي هؤلاء اليهود، فكانوا وبالا وشرا مستطيرا على الجزائر، والداي شخصيا أصبح في أيديهم، فكانوا هم الخصم والحكم في الجزائر وخاصة في الجانب الاقتصادي والتجاري ويقول القنصل الأمريكي وهو يصف مؤسسة بكري وبوجناح:”إن لهذه المؤسسة 170 سفينة تجارية تبحر سنويا إلى أوروبا محملة بالقمح والشعير والأصواف والجلود والزيت وغدت هذه الشركة دولة داخل دولة، ولمن أراد المزيد من التفاصيل يراجع صفحات (407-408-409-410-411) وما بعدها من كتاب “بحوث في تاريخ الجزائر في الفترة العثمانية ج1.
وها هو الباحث د-تابليت يغادر بنا للفترة العثمانية ليرحل بنا في الجزء الثاني من كتابه والذي خصصه للمقاومة والثورة التحريرية وهي المرحلة الحاسمة في تاريخ الجزائر المعاصرة حيث خصص 3 حلقات للمقاومة الشعبية في ظل وتحت قيادة الأمير عبد القادر، واتصالات الأمير عبد القادر بالقنصلين البريطاني والأمريكي في المغرب وهذا يؤكد بأن الأمير كان يخوض حربا ضد الاستعمار الفرنسي على كل الجبهات لا العسكرية فحسب، بل أيضا لم يغفل الجبهة السياسية، وتحدث الباحث تابليت عن المعاهدات التي أبرمها الأمير مع ديمشيل وبقى الأمير يكافح إلى أن وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه فارتأى حقنا للدماء ان يعلن الاستسلام، غير أن جذوة الجهاد لم تنطفئ فهي تخبو تارة وتشتعل تارة أخرى إلى أن جاءت ثورة الثورات فعصفت بقرن وربع من الاحتلال والاستغلال، فقدمت الجزائر خلال فترة الاحتلال ملايين من الشهداء، فقد قدم لنا الباحث لمحات عن الأمير في سجن أمبواز في فرنسا وزيارة نابليون الثالث له في سجنه مشيدا بخصاله، وتابع الباحث مسيرة إطلاق سراح الأمير من سجن أمبواز وهو في طريقه إلى عاصمة الأمويين مرورا بـ “بورسة” ثم دمشق حيث لقي استقبالا حارا من الشعب والشخصيات السورية وأعيان البلاد، فبعد أن استقر في دمشق الفيحاء تاقت نفسه لزيارة القدس الشريف فكان لذلك، ولخص لنا الباحث مرحلة استقرار الأمير في دمشق من 1863 إلى وفاته 1883، فكانت مرحلة تاريخية تحتاج كتابا كاملا وشاء له القدر أن يعود إلى وطنه في تابوت ليدفن بجانب الشهداء في أرض الشهداء، وقد انتقم أبناء الجزائر للأمير من الاستعمار الفرنسي فآلوا على أنفسهم طرده مهما كلفهم ذلك من دماء ودموع، وظلت شعلة الثورات تلتهب من 1983 إلى 1962 تاريخ نهاية لعهد ظالم مصيره الزوال، وقد أفرد الباحث صفحات عن مرحلة الاحتلال وما تلاها من جرائم وظلم إلى أن سطع فجر الاستقلال، وقد تتبع الباحث دراسة مرحلة الاحتلال بكل التفاصيل منها مصادرة أملاك أهل الزعاطشة بعد ثورتهم وأولاد ضاعن بنواحي قالمة 1852-1853 ورغم سياسة التفقير والتجهيل فإن الشعب الجزائري لم يرضخ وظل يقاوم حتى النصر. وخلاصة هذا الجزء أنه تناول عملية المقاومة والثورة التحريرية مرورا بتاريخ الحركة الوطنية منذ مقاومة الأمير عبد القادر ومقاومة أحمد باي 1837، والانتفاضات الشعبية التي لم تتوقف أبدا، أما في الجزء الثالث فقد خصصه كبحوث للمغرب العربي، وقد تناول في هذا الجزء مجموعة من الشخصيات المغاربية والعربية ودورهم في الحركة الوطنية بصفة عامة، والجزائر بصفة خاصة، وتعرض في هذا البحث إلى شخصيات من خلال إنتاجهم الفكري ودورهم في النضال الوطني ومن هؤلاء عبد الكريم الخطاب بطل ثورة الريف المغربي، وابن باديس والتضامن المغاربي خلال ثورة الجزائر، ومواضيع أخرى.
والحق أقول أن تقديم 3 أجزاء من كتب د-تابليت و”بحوث في تاريخ الجزائر” وكل جزء من هذه الكتب تزيد عدد صفحاته عن 500 صفحة وهو امر يتطلب وقتا وقراءة متأنية نأمل أن يتم لنا ذلك في المستقبل وقد أردت فقط كما قال أحد قادة الثورة الفرنسية دالتون: “أنر والناس يعرفون طريقهم” ومن باب “وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين”.