في رحاب الشريعة

العدل أساس الملك وقوامه قضاء وحكم الشريعة القرآنية/ محمد مكركب

البحث عن عوامل التمكين لبناء الدولة وتحصين الأمة، عبر مفاتيح النصر والتقدم، نجد من أهم المفاتيح:( العدل) بقضائه الشرعي القرآني، نجده هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة المستقرة الآمنة المتقدمة المهيمنة، ذات السيادة الكاملة، التي يقال فيه لحكامها، عدلتم فأمنتم فنمتم. أما إذا وقع الخلل والضعف في أجهزة العدالة، وزاغ القضاء في غفلة ساذجة فإن السيل الفوضوي الجارف سيزعزع كيان المجتمع، وقد تحدث الهالكة. 

 بينا إلى حد الآن ستة مفاتيح، من أركان النصر وبناء الدولة القوية، وهي: الإيمان اليقيني، والآيات المحكمات، والاتحاد بين المؤمنين والمؤمنات، واجتناب خطوات الشيطان وسائر الشبهات، والموبقات، واتباع الأسباب، مع فريضة الشكر الاستثماري العملي. والآن في هذا المقال نتكلم عن العدل، ثم عن قيمة الشورى العلمية. إن شاء الله تعالى.

  المفتاح السابع: العدل وهو أساس الملك: فمن مفاتيح النصر والفلاح. العدل في المحاكم، والعدل في التربية والتعليم، والعدل في الدخل القومي، والعدل في الامتيازات، والعدل في كل الحقوق الأصلية:( كالتعلم، والملكية، والتنقل، والحرية، والمواطنة). فالله عز وجل، أمر الأمراء والعلماء، فقال:﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾(النساء:58).

قال الحسن البصري رحمه الله:( أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس، ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، قال الله تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾(سورة ص:26).

وفي الحديث: عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار]( أبو داود. كتاب الأقضية.3573).

قال محاوري: ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم:[إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر] (البخاري. كتاب الاعتصام.7352).

قلت: نعم هذا حديث صحيح ومنطقي، ولكن ما معنى [ فاجتهد]؟

1 ـ  يجب أن يكون عالما في مستوى الاجتهاد في المسألة التي اجتهد فيها.

2 ـ أن يستعمل كل الوسائل ومنها الشورى العلمية، أي استشارة العلماء المختصين في الموضوع. لا تتصور أن معنى الحديث:[إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر] أن أي مسئول مهما كان مستواه، قد يتولى منصبا ليس أهلا له، ويقرر عن جهل ثم يبرر لنفسه بأنه اجتهد، ولو ظل يخطئ فله أجر؟!!. هذا فهم خاطئ، إن الذي ليس في مستوى الْمَهَمَّة الوظيفية، وليس له الكفاءة المطلوبة للمنصب، ويجتهد عن غير علم، فلا يقال إن أخطأ له أجر، وإنما عليه الوزر. سواء كان في القضاء، أو في البلدية، أو الولاية، أو الوزارة. وهل يعتبر عضو مجلس الشورى في مستوى المهمة، وهو قد لا يحفظ حتى سورة الشورى؟ فما تخلف المتخلفون إلا عندما تولى غير العالمين مناصب التخطيط والتسيير والتدبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله الحكيم الخبير.

المفتاح الثامن: الشورى العلمية. فما هي الشورى؟ الشورى: بمعنى التشاور، وتبادل الرأي المؤصل بالعلم والشرع، وهي أي الشورى عامل قوي من عوامل إقامة العدل في الحكم. لذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالشورى. قال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ﴾، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾(سورة آل عمران:159).

قال محاوري: أليست المؤسسات البرلمانية المتواجدة في أجهزة الدول في العالم مجالس شورية؟ قلت: نحن نتحدث هنا عن الشورى العلمية لا عن الآراء الانطباعية، ولا عن التكتلات السياسية، ولا عن المناصب والمكاسب، والصراع الفكري تهافتا على الامتيازات المحققة للرغبات. إن مؤسسات الشورى تسمى مجالس الشورى الشرعية العلمية، التي تسير بالمفتي العام للأمة. الذي يستشار في كل القرارات ويشهد عليها أمام الأمة، وأن يؤصل القرار المستشار فيه بالقرآن الكريم، والسنة النبوية، وإن كان في مجال الاجتهاد فيعلن عن العلماء المتخصصين الذين اعتمد المفتي على آرائهم العلمية. وإليك صورة من الشورى العلمية، قبل أن يتخذ الرئيس القرار.

عن عبد الله بن عباس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف – وكان متغيبا في بعض حاجته – فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[ إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه] قال: فحمد الله عمر ثم انصرف.( البخاري: 5729).

وذكرت لك هذه القصة كمثال كيف كان الصحاب يجتهدون في المسألة ويبحثون عن الدليل الشرعي، ولا يتبعون أهواءهم، وكيف أن عمر رضي الله عنه، يحقق ويدقق في المسألة حتى اطمأن، ثم لما أخبره عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، بالحديث حمد الله تعالى. لأن الخلفاء الراشدين كانوا إذا علموا حكم القرآن أو السنة أو الإجماع، لم يتعدوه إلى هواهم.

فمن أجل أن يُبْنى حيٌّ سكنيٌّ، أو يشق طريق، أو تبنى جامعة، أو تعدل مادة قانونية، أو تنشأ قاعدة صناعية، أو يبت في قرار شريحة من العمال، وغير ذلك من القرارات التي تخص مصير الأمة يجب دعوة كل العلماء المختصين في المجال المقصود بالقرار، ويتناولونه جميعا بالبحث والدراسة، ولا يُكْتفى بموظفين معينين على الدوام، يعملون بالرتابة والتقليد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com