حديث في السياسة

المجتمعون على “خلاها”/ التهامي مجوري

عندما ينظر الإنسان إلى بعض البرلمانيين يتصارعون فيما بينهم، كما يتصارع عوام الناس وجهالهم، فيلجأون إلى غلق مكتب “بالكدنة”، قطعا للطريق عن واحد منهم؛ لأنهم اختلفوا معه، يبكي على واقع هذا المجتمع المغبون البكاء المر.. ويذرف دماء لا دموعا، وذلك ليس لأن البرلمانيين اختلفوا وتصارعوا، فذلك من طبيعة التدافع السياسي المقبول، وإنما يبكي على الكيفية السوقية في الصراع، التي تدار بها الخلافات السياسية بين الفرقاء، وهي بلا شك كيفية لا يقبل بها كل من يحترم نفسه، سواء كان سياسيا أو شخصا عاديا.

وكل مواطن شريف لا يسعه إلا أن يتساءل بجد عن هذا السلوك الـ “ما قبل بدائي”، هل هو نتيجة غياب الفعل السياسي الجاد والسياسيين المحترمين؟ أم بسبب غياب القانون وسوء تفعيله؟ أم بسبب فساد الواقع الذي أضحى يفتقر لكل شيء نبيل، علما وأخلاقا وسياسة ومنطقا.

والناظر في هذا الواقع يرى أن كل ذلك مُجْتَمِعٌ على “خلاها”، ولو لا اجتماع هذه الرذائل كلها، ما أقدم رجال ينتسبون لأعلى مؤسسة –بعد الرئاسة- وأقدسها في البلاد وهي المؤسسة التشريعية على فعل كهذا؛ لأنه فعل أقل ما يقال فيه أنه فعل متخلف وسلوك غير حضاري وعمل لا يقوم به عاقل، فضلا عن أن يكون هذا الفاعل نائبا عن المجتمع ومنتخب للقيام بخدمته والتشريع له.

هذا الواقع المخزي الذي أنتج مثل هذا السلوك لا يمكن أن يكون لسبب واحد، وإنما هو نتيجة لمستوى من التعفن غابت فيه جميع مستويات التعفف. ولعل واقعنا المتسم بالركود السياسي العام، يحدثنا بأن بعض السياسيين الآن مستعدون لفعل كل شيء؛ لأنهم لا يشعرون بمساءلة في يوم ما؛ بل ربما شعروا بحماية من أشباههم، ولأن الجانب القانوني هو آخر ما يفكر فيه. أما الذين في قلوبهم ذرة من خير فإنهم يترقبون ولا يجرؤون على فعل شيء خوفا من مستقبل قد يدينهم، أو ضعفا في القول “اللهم إن هذا منكر”.

أما الجانب القانوني المفترض وقوفه في وجه مثل هذه السلوكات وغيرها، فغائب عن الساحة رغم أن القانون وضعه المجتمع لنفسه وفق صيغة توافقية بين منتخبين، قد يكون فيها غبن للبعض أو يتضرر منها بعض آخر، ولكنها ما دامت صيغة توافقية فإن الجميع يرضى بها ويحق للجميع أن يطالب باحترامها، لأن الغاية من كل صيغة توافقية هي الوصول إلى ضمان حقوق المجتمع بما يقوم به أفراده من واجبات، أي بضاعة المجتمع تعود عليه ولا يذهب بها غيره، وليس ضروريا أن تحرك الأطراف المتصارعة دعوات قضائية ضد بعها البعض حتى تتحرك العدالة بفرض القانون، وإنما كل من رأى أن المجتمع يتضرر من سلوك ما، يحق له أن يرفع دعوة على المتسبب في الضرر، وهذا حس قانوني يجب فيه النضال كما يجب في السياسة.

أما الواقع فطبيعته متقلب، ولكن تقلبه في الأوضاع العادية يختلف عن التقلبات في الأوضاع غير العادية. ففي الأوضاع العادية تكون التقلبات بمثابة مجتمع متحرك يصيب ويخطأ ويتردد ويقدم ويحجم، والمحصلة دائمة فيها إضافة للمجتمع في جانب أو جوانب في حياته، أما تحركه في الأوضاع غير العادية، فإنه يقوم بكل تلك الحركات ولكن في جو من الخوف والهلع والمحصلة خسارة للمجتمع؛ لأن المتحرك المقدم على الفعل وغير المتردد هو الذي غلبت عليه شقوته؛ لأنه الوحيد الذي يشعر بالراحة بسبب الاضطراب والواقع غير العادي؛ لأن الذي “يستحي على عرضه”، لا يشعر بالحماية في واقع متعفن، وإنما يشعر بالخوف على نفسه على المجتمع؛ بل يكون منشغلا بمصير الواقع المضطرب والخوف عليه من الإنزلاقات؛ لأن حركات المجتمعات كحركة المياه في السيول الجارفة، وكزحف الرمال في الرياح العاتية، وليست كحركة الأفراد، تتحرك بتؤدة وثقل ورصانة.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com