في رحاب الشريعة

مع منهاج الكتاب باتباع الأسباب، مع أولي الألباب/ محمد مكركب

هما مفتاحان:( اتباع أسباب التمكين) و ( الشكر العملي) أسباب الإعمار، وشكر الاستثمار. قال الله عز وجل في خبر عن ذي القرنين:{فَأَتْبَعَ سَبَباً} فكان النجاح حليفَه، والنصر رفيقَه، ورضا الله غايتَه، وهو من بني آدم الذين استخلفهم في الأرض، فأصلحوا ولم يفسدوا. وهذا الذي نريده من هذه البحوث، نريد الملوك والخلفاء والرؤساء المصلحين الذين يتبعون الأسباب، ويشكرون العزيز الوهاب. وقلنا: إن المفتاح الأول: الإيمان، والثاني: العمل بآيات الأحكام، والثالث: الاتحاد بين عباد الرحمن، والرابع: اجتناب خطوات الشيطان. والخامس يا أولي الألباب هو:( اتباع الأسباب) هل في هذا لبس أو التباس أيها الناس؟.

1 ـ المفتاح الخامس من مفاتيح بناء الدولة القوية والمجتمع الآمن المستقر:( اتباع الأسباب): والسؤال ما هي أسباب التمكين؟ والجواب في الكتاب المبين. ففي قصة ذي القرنين، (ويصلح أن تكون قصته محل اعتبار واستبصار). قال الله تعالى:﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾[ الكهف:84/85] لماذا لا يتعلم ملوك هذا الزمان من ملوك أهل الإيمان، الذين ورد ذكرهم في القرآن، كذي القرنين، والخضر، ولقمان، وداود، وسليمان، ويوسف عليهم السلام.

فَمَعْنَى التّمكين فِي الأرضِ إِعْطاءُ المقدِرَةِ على التَّصرُّف في الأرض وأهلها حكما وتسييرا، كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام:﴿وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾[يُوسُف: 56] وكان يوسف (وهو رسول عليه الصلاة السلام) ملكا صالحا مصلحا، أصلح الأرض وأخرج أهلها من الأزمات لما اتبع الأسباب التي آتاه الله عز وجل. وكذلك كل الملوك والخلفاء والرؤساء والأمراء الذين اتبعوا الأسباب بعلم وحكمة، واتبعوا الحق بصدق، ففتحوا وانتصروا وازدهرت الحضارة في عهدهم، لما كانوا صادقين مع ربهم. فما معنى السبب؟ وَالسَّبَبُ: لغة يطلق على الْحَبْل، وأطلق في الآية على ما يُتَوَسَّلُ بِهِ (ويتوصل به) إِلَى الشَّيْءِ المبتغى والمقصود:(كالعلم أَوْ الحكم، أَوْ آلَاتِ التَّسْخِيرِ، أو الثروات الطبيعية، وكل نعمة من ماء، وفضاء، وحقول وصحاري. والسَّبَبُ اصطلاحا: الْوَسِيلَةُ والعامل المعين مما يتخذ لبلوغ شيء. ومنه الطريق، والطريقة، والأداة، والمنهاج، والمخطط، وكل الوسائل المادية والمعنوية المشروعة.

قال الرازي:[والمراد بقوله تعالى:﴿وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ أي: وآتيناه من كل شيء يحتاج إليه في إصلاح ملكه سببا. أعطيناه من كل شيء من الأمور التي يتوصل بها إلى تحصيل ذلك الشيء ( الذي يريده في الإصلاح)] وقال القرطبي: من الملوك أربعة: مؤمنان، وهما: سليمان، وذو القرنين. وكافران: النمرود، وبخت نصر. وفي الجامع لأحكام القرآن:(وَالْحَقُّ فِي هَذَا أَنَّ تَبِعَ وَاتَّبَعَ وَأَتْبَعَ لُغَاتٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهِيَ بِمَعْنَى السَّيْرِ) قلت: والسير يقصد به السير في الطريق نحو مكان معين، وراء المتبع ليلحق به، أو ليسير عبر الطريق الذي سلكه وإن لم يلحق به. ويكون السير بمعنى اتباع السيرة أو السنة، أو الشرعة، أو الفكرة، أو الطريقة، كالقول: سار على نهجه، أو على مذهبه.

والمقصود في هذه الدراسة استثمار الأسباب كالأرض والثروات والقوة الشبابية، في أبواب الخير: للإصلاح والبناء والعمران. باستثمار ما أعطاه الله العلي الحكيم، من الأسباب: كالأرض، والبحر، والجبال، والحديد، والذهب، والفضة، والنحاس. والبساتين، والحدائق، وسائر النعم. ليشيد المدن والطرق والسدود والحصون وموارد الاقتصاد، لأمن البلاد، وحياة العباد. وهكذا يفكر الملوك الصالحون، وتدبر فإن ذا القرنين حتى عندما أعطاه الله سبب السلطان يحكم في عباد الله بالتسخير كما يشاء ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾. فماذا كان جوابه، وكيف عبر عن صفة الملك الصالح، الذي يريد بحق أن يبني الدولة الصالحة، دولة القانون، دولة العدالة، الدولة التي تتقدم ولا تتهدم.﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا.وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾.

ويُلَخَّص مفتاح الأسباب، في حسن استثمار ثروات البلد، وطاقات الشباب فيما ينمي ويطور ويقيم المدنية الحضارية. لا في تبذير الأموال وتضييع ممتلكات الأمة، بلد مثل الجزائر أو ليبيا، أو اليمن، أو السودان، لو اتبع فيها هذا المفتاح ( اتباع الأسباب) لحققت الاكتفاء الذاتي في كل الضروريات في ظرف سبع سنوات، وكان يمكن أن يكون هذا ليس من اليوم فقط، وإنما منذ الستينيات والسبعينيات.

2 ـ المفتاح السادس: الشكر العملي، وهو العمل والإنتاج، والتنمية المستدامة. هل تدبرتم ما جاء في قول سليمان عليه السلام، عندما شاء الله أن يجمع له تلك الجيوش ويسخر ما سخر له من الطير والجن وعلمه لسان الحيوانات وعلم الكتاب، فوقف معتبرا حامدا شاكرا ليواصل البناء والعمران. فقال: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ﴾[النمل:19] فتدبر كيف قال: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ، وهذا ترجمة لمعاني الشكر، وذلك بالاستثمار، لا بشكر اللسان فحسب. فالدعوة إلى العمل والإنتاج وتحقيق عمارة الأرض.﴿وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود:61] هل عمل العرب في بلدانهم على حسن عمارة الأرض بالخير؟ هل حققوا الاكتفاء الذاتي لأنفسهم؟ ففي الحديث. عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ] (البخاري.1471).

قواعد الشكر العملي في مفهوم التنمية المستدامة في علم الاقتصاد:

1 ـ إحصاء مصادر القدرات والطاقات بمنطق (الأسباب) التي مرت بنا، في المفتاح الخامس. ومن القدرات الكفاءة الإنسانية، أي كل الأفراد القادرين على  العمل في المجتمع. هل تملك الشعوب المتخلفة، أو قل السياسات المتخلفة، إحصاء شاملا مفصلا؟ والجواب معلوم من ظاهر الواقع المتردي الخاضع للتبعية المقيتة.

2 ـ وضع الخارطة الاقتصادية بالموازنة بين مصادر الثروات والمواد الأساسية، وصناعة التحويل التي تعتمد على الإنتاج المحلي وحده، فلا يجوز أن تبنى الخريطة الاقتصادية على مورد أجنبي، ولو بِبُرْغِي، أو إبرة أبدا.

3 ـ توظيف كل فرد في مجال حرفة منتجة، ولو يجمع الحطب كما جاء في الحديث.

4 ـ استثمار كل شبر من الأرض بما يصلح للتنمية المستدامة، لا للترقيع والتضييع، بأن تترك الأراضي الزراعية للزراعة والبستانية للبساتين، وتقام المساكن والمدن في الأراضي الرملية الجبلية والصخرية والسفوح وفق ما يقرره علم الهندسة المدنية. وهكذا يفهم مفتاح الشكر العملي، وهو أن تستثمر كل سبب أعطاه الله لك فيما يصلح له. تدبر فيما يصلح له. لأن تترك المساحات الحجرية بحجرها، للبناء عليها ولا طرق ولا مصانع ولا حصون ولا ثكنات ولا منشآت، والأراضي الفلاحية المزدهرة بالخيرات نملأها بحجر الإسمنت والمصانع والطرقات. وهذا التناقض انتحار في علم الاقتصاد.

5 ـ التعامل مع الشركات الكبرى التكنولوجية في المراكب والسيارات والاتصالات بعلم وحكمة الشراكة التكاملية الدولية كما هو مبين في علم العمران، لا بمنطق التشارط الأهوائي، بناء على التلازم بين الحرية الاقتصادية العالمية الواقعية، والنظام الأخلاقي المهني.

6 ـ أن تقوم المبادلات التجارية على المقايضة فحسب، وهذا المبدأ الاقتصادي الحتمي يقتضي من الشعب وضع الآليات الضرورية إجباريا على نفسه أن يحقق الحد الأدنى على الأقل من الضروريات، حتى لا يخضع للمساومات والضغوط. ومعلوم في مفهوم الاستدامة في علم الاقتصاد أن الاكتفاء الذاتي الضامن للأمن الاقتصادي المستقبلي قوامه: المصدرية المحلية مائة بالمائة، والسرية مائة بالمائة. وما عال من اقتصد ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[النحل:10/11].

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com