الرجـوع إلى الحق فضيلــة/يوسف جمعة سلامة
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(1).
جاء في كتاب صفوة التفاسير للصابوني في تفسير الآية السابقة:({وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} أي ارتكبوا ذنباً قبيحاً كالكبائر {أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} بإِتيان أي ذنب {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} أي تذكروا عظمة الله ووعيده لمن عصاه فأقلعوا عن الذنب وتابوا وأنابوا{وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} استفهام بمعنى النفي أي لا يغفر الذنوب إلا الله وهي جملة اعتراضية لتطييب نفوس العباد وتنشيطهم للتوبة ولبيان أن الذنوب – وإِن جلَّت – فإن عفوه تعالى أجلّ ورحمته أوسع{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (أي لم يُقيموا على قبيح فعلهم وهم عالمون بِقُبْحه بل يُقلعون ويتوبون)(2).
من المعلوم أن الرجوع إلى الحق فضيلة والتمادي في الخطأ والباطل رذيلة، كما أن الرجوع إلى الحق من شِيَمِ الكبار والعظماء ويدل على رجاحة العقل وصواب الرأي، ومما يُؤسف له أن بعض الناس يُخطئون فيتكبرون أن يعودوا إلى الحق بعد ظهوره، وَيُصِرّون على الخطأ عن جهل واستكبار، وَيُوجِدون لأنفسهم المُبَرِّرات الواهية غير المنطقية، ولكن الاعتراف بالحق والرجوع إليه خيرٌ من الاستمرار والتمادي في الباطل، كما جاء في رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه – التي وجَّهها إلى أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – عندما وَلاّه قضاء الكوفة: (…لا يَمْنَعَنَّك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك، وهُديت فيه إلى رُشدك أن تُراجع فيه الحق-أي ترجع إلى الحق-، فإن الحق قديم، وإن الحق لا يبطله شيء، وإن مراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ).
ولعظيم فضيلة الرجوع إلى الحق فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يفتتح صلاته في قيام الليل بهذا الدعاء، كما جاء في الحديث عَن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ:( سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْتَتِحُ صَلاتَهُ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاتَهُ:“اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(3).
فما أجمل الاعتراف بالحق والرجوع إليه، وما أقبح الوقوع في الخطأ مع الإصرار عليه والتمادي فيه.
أبو بكر الصديق t… والرجوع إلى الحق
لقد ضرب أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- مثلاً رفيعاً في سرعة الرجوع إلى الحق والتَّغَلُّب على عواطفه، وما قصته– رضي الله عنه – مع قريبه ونسيبه مسطح بن أثاثة الذي خاض مع الخائضين في حديث الإفك، وقال في أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما – ما قالَ عنا ببعيد، كما جاء في قوله تعالى:{وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(4).
فقد جاء في كتاب تفسير التحرير والتنوير للإمام الشيخ ابن عاشور:( وإن من ذيول قصة الإفك أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان يُنفق على مسطح بن أثاثة المُطَّلبي، إذ كان ابن خالة أبي بكر الصديق وكان من فقراء المهاجرين، فلما علم بخوضه في قضية الإفك أقسم أن لا ينفق عليه، ولمّا تاب مسطح وتاب الله عليه، لم يزلْ أبو بكرٍ واجداً في نفسه على مسطح فنزلت هذه الآية، فالمراد من أولي الفضل ابتداءً أبو بكر، والمراد من أولي القربى ابتداءً مسطح بن أثاثة، وتعمّ الآية غيرهما ممّن شاركوا في قضية الإفك وغيرهم ممّن يشمله عموم لفظها، فقد كان لمسطح عائلة تنالهم نفقة أبي بكر .
قال ابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كلّ مَنْ قال في الإفك، وقالوا: والله لا نَصِلُ مَنْ تكلَّم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم.
ولما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم – الآية إلى قوله {أََلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}، قال أبو بكر : بلى، أُحِبُّ أن يَغْفر الله لي، وَرَجَّع إلى مسطح وأهله ما كان يُنفق عليهم، قال ابن عطية : وكفّر أبو بكر عن يمينه، رواه عن عائشة)(5).
أصابت امرأة وأخطأ عمر
عند دراستنا لِسِيَرِ الخلفاء المسلمين نجد أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان مِمَّنْ رجع إلى الحق حينَ ظهَر له وجهه، حيث قال- رضي الله عنه-: أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر، وقد جاء في تفسير القرطبي:”خطب عمر– رضي الله عنه – فقال: أَلاَ لاَ تَغَالوا في صَدُقات النساء، فإنها لو كانت مَـكْرُمَةً في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله– صلى الله عليه وسلم -؛ ما أَصْدَقَ قَطّ امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة، فقالت: يا عمر، يعطينا الله وَتَحْرِمُنَا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا}(6)، فقال عمر-رضي الله عنه-: أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر، ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر!)(7).
خَيرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ
من المعلوم أن كل ابن آدم خطَّاء، كما جاء في الحديث عن أنس – رضي الله عنه- أن النبي– صلى الله عليه وسلم- قال:( كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ) (8)، فكلنا بحاجة ماسة إلى مغفرة الذنوب والمعاصي التي نقترفها بالليل والنهار، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أنْ هَيَّأَ لنا أسبابًا كثيرة للمغفرة، ما أَخَذَ بها مسلمٌ إلا عمَّه الله تعالى بمغفرته ورحمته، ولمّا كانت الحياة دار امتحان وابتلاء والإنسان فيها مُعَرّض للخطأ والصواب، فإن الله عزّ وجل لم يُغلق بابه في وجه التائبين ولم يُوصد رحمته أمام النادمين، بل تجاوز برحمته عن هفواتهم وشملهم بفضله وعفوه حين جاءوا إليه نادمين، ولفضله راغبين، ولرحمته ساعين، فما أعظم فضل الله سبحانه وتعالى وما أجمل عفوه ورحمته.
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن فتح باب الأمل والرجاء أمام المذنبين، ليتوب مسيئهم ويثوب إلى رشده شاردهم، كما جاء في الحديث الشريف عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:” إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا“(9)، وعندئذ يغفر الله لهم ما اقترفوا من إثم أو معصية، كما جاء في قوله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(10)، وكما جاء في الحديث القدسي، قال الله تعالى:( يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)(11).
إنّ يدَ الله عزّ وجل مبسوطة بالعفو والمغفرة لا تنقبض في ليل ولا نهار، تَنْشُدُ مذنباً أثقلته المعاصي يرجو الأَوْبَةَ بعد طول الغيبة، ومسيئاً أسرف على نفسه يرجو رحمة ربه، وفاراً إلى مولاه يطلب حُسْنَ القبول، فما أكرمه من إله، وما أرحمه بخلقه وعباده، يُجَابِه الناس ربهم بالفسوق والعصيان، ويخالفون دينه، ويأتون ما نهى عنه، حتى إذا تابوا وأنابوا، قبل الله توبتهم وغفر سيئاتهم وأحبهم ورفع درجاتهم، كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}(12).
اللهم أرنا الحقّ حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
الهوامش:
1- سورة آل عمران الآية (135).
2- صفوة التفاسير للصابوني 1/230-231.
3- أخرجه مسلم.
4- سورة النور الآية (22).
5- تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور 18/188-189.
6- سورة النساء الآية (20).
7- تفسير القرطبي 5/99.
8- أخرجه ابن ماجه.
9- أخرجه مسلم.
10- سورة الزمر الآية (53).
11- أخرجه الترمذي.
12- سورة الفرقان الآية (68 – 70).