مجالس السيرة النبوية دراسات في السيرة النبوية تطور مناهج الكتابة في السيرة النبوية (9)/ خير الدين هني
مناهج المتأخرين:
أريد أن أستدرك فأقول: كان ينبغي الالتزام بترتيب كتابة مناهج المتأخرين قبل ذكر مناهج المعاصرين، ولكن هفوة ترتيبية وقعت في الجهاز، ولا بأس وقد نبهت إليها، ولذلك ينبغي التنبيه إلى أننا كثيرا ما نسمع ترديد كلمة المتقدمين والمتأخرين، فما المراد بهاتين اللفظتين اللتين تذكران دائما على وجه التلازم، والإشارة –هنا- تعود في الأصل إلى ما ورد بكثرة في كتب الحديث، من لفظتي المتقدمين والمتأخرين ضمن ما كان يدور عندهم من مسائل كانت تشكل مباحث في علم الحديث، ومرد الاختلاف بينهم يعود إلى أساليب التكوين وطرق البحث وحاجات عصورهم، لذلك انتهج كل منهما مناهج تطابقت مع احتياجاتهم المعرفية والبحثية في التصحيح والتضعيف والتنظير، فيما كان يطرح من مسائل وقواعد، وطرق التحمل والأداء والجرح والتعديل، والحفظ والنقد والتدقيق والتمحيص.
ولقد اختلف العلماء في المراد من كلمة المتقدمين والمتأخرين، فذهب بعضهم إلى أن المقصود من المتقدمين هم نقاد الحديث، وأن المتأخرين هم الفقهاء وعلماء الكلام والأصول ومن جرى على نحوهم من أهل الحديث، من غير اعتبار للفاصل الزمني بينهما، على حين ذهب الكثير من المحققين إلى اعتبار الفاصل الزمني هو ما يفرق بين مناهجهم، وجعلوا الفاصل الزمني بينهم هو القرن الثالث الهجري إلى يومنا هذا، وذهب آخرون إلى أن منتصف القرن الرابع الهجري هو الفاصل الذي يفصل بين المتقدمين والمتأخرين. وذهب فريق ثالث إلى اعتبار القرن الثالث عشر الهجري هو نهاية عصر المتأخرين وبداية المعاصرين. وهذا التقسيم الأخير هو ما نميل إليه لاعتبارات علمية وثقافية ومنهجية.
ولعل الذي يميز مناهج المتأخرين عن مناهج المتقدمين في كتابة السيرة، هو استغناؤهم عن السند والاكتفاء براوي الخبر، وحذف بعض المرويات والإسرائيليات التي شملتها كتب السيرة التي وصلت إليهم، ولذلك نرى بعض الأئمة المتأخرين ممن كتبوا في السيرة النبوية لم يعتمدوا على السند، أو إظهار مصادرهم التي أخذوا منها، مثلما فعله ابن حزم الظاهري في كتابه (جوامع السيرة النبوية)، فلم يسند أخبار رواياته كما أنه لم يبين مصادره مثلما أشرنا إليه من قبل إلا كتابين مفقودين وهما تاريخ أبي حماد الزيادي، وتاريخ خليفة بن خياط. ولكن سعة اطلاع ابن حزم وعلمه الغزير يجعلنا نجزم بأنه اطلع على كتب السيرة جميعها، ووقف على دقائقها ومناهجها وطرق كتابتها، فابن حزم كان عالما كبيرا حافظا فقيها وعالما مجددا وثائرا على التقليد. وهو من أحيا المذهب الظاهري الذي كان شرقي النشأة على يد داود الظاهري، لذلك كان كتابه في شكل رسالة موجزة، غير أنها كانت شاملة تناولت أصل النبي صلى الله عليه وسلم وأجداده، ونشأته وأصحابه الذين أبلوا معه، وما صاحب ذلك من وقائع وغزوات وسرايا واتفاقيات وغير ذلك. وكان يتوخى الابتعاد عن غرائب المرويات والأخبار. وكان لرهافة حسه وتذوقه لجمال الكلمة وسحرها وأثرها على القارئ، قد عرض كتابه بأسلوب قصصي شيق جذاب، كما لو أن السيرة كانت على شكل قصة واحدة متكاملة الحبكة وذات انسجام وتوافق.
وكتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي عياض)[476هـ 544هـ] المتوفى بمراكش، قاضي وفقيه ومؤرخ. يعده الإخوة المغاربة مفخرة لهم، كان كتابه فيه جدة وطرافة بمنهجية مبتكرة ركز فيها على طرق حب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يسبق إليها، فلم يعتمد على الطريقة السردية مثلما كان يفعله المتقدمون، الكتاب متوسط الحجم جعله في أقسام وأبواب وفصول، تناول جوانب متعددة من تعظيم وتبجيل وما هو مخصوص به صلى الله عليه وسلم من عصمة ومن فضائل وشمائل، ولم يذكر مصادره ومراجعه التي نقل منها، لا في مقدمة كتابه ولا في خاتمته، غير أنه كان يذكر بعضها في ثنايا الكتاب، وكان ابن إسحاق من جملة من كان يشير إليهم بالذكر. كما كان يشير إلى بعض النقول المختلفة في التفسير والحديث والسير والتاريخ وكتب المتكلمين، وكان في بعض الأحوال يكتفي بالإشارة كقوله:” قد رأيت لبعض السلف، الشفا1، 160″ وقوله:”وقد وقع لبعض المفسرين 1،161″. وقوله:” قال بعض العلماء،2،46). وقوله:” وأضفنا بعض ما وقع من مشاهير كتب الأئمة 205 ،1…إلخ. وكان يحرص على السند في رواية الأخبار أحيانا، أورد النقول إلى أصحابها أحيانا أخرى، وقد يكتفي بذكر الخبر لشهرته، والذي يميز منهجه أنه كان يبدي رأيه في بعض المسائل التي تتعلق بالفقه أو الأصول أو علم الكلام والتاريخ. والكتاب يلخصه عنوانه الذي يقصد به أن من عرف صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وشمائله ومواقفه، عرف قدره ومقامه ومنزلته، فوجب على من عرف ذلك حبه وطاعة. والكتاب حظي بقبول جيد من العلماء .
و(السيرة الحلبية) لبرهان الدين الحلبي، اعتمد فيها على كتاب (عيون الأثر) لابن سيد الناس، كان منهجه هو اختصار الأسانيد وحذف الروايات الموضوعة، وكان يجعل من همزة البصيري الصنهاجي الأصل المصري المولد والوفاة (تـ 696هـ) سندا يزين به مقاطع من السيرة بما يتناسب مع المعنى، مع إضافة أبيات من تائية السبكي وأبيات لابن سيد الناس، وقد أطال في آخر كتابه من ذكر السرايا وشمائل النبي وصفاته. وقال عنه الدكتور العمري في كتابه:( السيرة الصحيحة المجلد1 ، ص69)، “…ومنها (السيرة الحلبية) لبرهان الدين الحلبي (تـ 841هـ). فيه حشو وقصص إسرائيلية، وقد حذف أسانيد الروايات واكتفى بذكر راوي الخبر، وشرح بعض الغريب وإضافة تعليقات أخرى”.
وهكذا بعدما فرغنا من عرض تطور مناهج كتابة السيرة النبوية، عبر تسلسل زمني متدرج، دعت إليه الضرورة المنهجية واحتياجات العصور المتعاقبة، ولم يبق لنا سوى مناهج أصحاب المدرسة الإصلاحية ممن ينتهجون المناهج العقلية من أصحاب الأدب والفكر من الكتاب المسلمين المعاصرين، وكذا المستشرقين المتعصبين والمنصفين، وقبل التعرض إلى ذلك، يجدر بي أن أتناول جزئية هامة من تاريخ تطور مناهج كتابة السيرة النبوية بالمنظور التاريخي عند المؤرخين المعاصرين.
فرغم أن أهل الحديث كذبوا الواقدي، وأوهنوا من روايته، إلا أنه لا يمكن الاستغناء عنه في المغازي وأخبار الصحابة وبعض دقائق التاريخ كما قال المؤرخون المعاصرون..ولقد رأيت الدكتور حسين مؤنس، في كتابه (دراسات في السيرة النبوية)، يثني على المؤرخين ومنهم الواقدي، لأن كتابه فيه من فوائد المادة التاريخية ما لم يوجد في غيره من كتب معاصريه من المحدثين.
وقد استشهد بخبر تضمن جزئية تاريخية اقتصادية هامة وقعت في المدينة، بعد أن أثبت صحة وقوعها. وهي حادثة شراء:”سعد بن أبي وقاص بئر بيوت السُّقيا ببكرين أي: بجملين شابين أو بسبع أواقٍ من الذهب، ومعنى هذا أن البكر الواحد يساوي 3.5 أوقية من الذهب، والأوقية وزن مثقال من الذهب، والمثقال وزن دينار، أي: (2.4 )، تقريبا من غرامات الذهب، هذه فائدة عظيمة بالنسبة للأحوال الاقتصادية في المدينة إذ ذاك، فها نحن نرى أن ثمن البكر ثم ثمن البعير كان وحدة تعاملية معترفا بها، فالبعير يساوي عشرة شياه، ودية النفس مائة بعير، وثروة الرجل كانت تقدر بما يملك من الإبل” (حسين مؤنس، دراسات في السيرة النبوية، ص19،20).
فالذي يمكن استخلاصه من الحادثة أن المقايضة بالجمال كانت وحدة تعاملية بدلا من العملة الرسمية، وأن قيمة بكر واحد من الجمال هي (3.5) أوقية من الذهب..والأوقية وزن مثقال من الذهب، والمثقال وزن دينار، أي: (2.4 )تقريبا من الغرامات..وهذه فائدة عظيمة لمعرفة القيم الاقتصادية في ذلك الزمان، وبهذه الجزئية التاريخية التي كان يغفلها أهل الحديث، ويهتم بها المؤرخون، تجعلنا نحن اليوم نستطيع تقييم ثروة الأغنياء في تلك الحقبة من التاريخ.
وحين قمت بتحول قيمة البكر من الجمال بالدينار الجزائري بالقيم الرسمية الحالية، اعتمدت على نصاب الزكاة (20 دينارا) ذهبيا، وقيمة (20د ذهبيا) تساوي بالقيمة الورقية حسب تقديرات سنة 2017.حوالي 45 مليون سنتيم. وبتقسيم 45 مليونا على 20 دينارا، تكون قيمة الدينار الذهبي بالقيمة الورقية عندنا، هي:(2250000 مليونان ومائتان وخمسون ألف سنتيم)، فوجدت أن ثمن الجمل في عهد النبي كان في حدود ثمانية ملايين سنتيم. وقيمة البكر من الجمال هو ضرب:3.5د × 2250000= 7875000 . سبعة ملايين وثمانمائة وخمسة وسبعون ألف سنتيم.
فهذه الجزئية التاريخية العارضة في الغزوة، لم يكن يعيرها المحدثون أهمية، لأنها لا تدخل في نطاق اهتماماتهم..بينما كان المؤرخون يحفلون بها ويسجلونها في كتبهم..ومن هنا جاء ثناء المؤرخين المعاصرين على قدامى المؤرخين المطعون في عدالتهم.
وعلى هذا يمكن تقدير القيمة المنهجية، وضرورة ارتباطها بالبيئة الثقافية التي تحكم الكاتب أو المؤرخ، فأنت ترى معي أن كل عصر كانت له احتياجاته التي تملأ فراغه وتلبي رغباته، وهذا القانون هو الذي تنتظم به سنن الحياة التي درج عليها البشر ودأبوا على العيش فيها، وميزت طبائعهم وسلوكهم على الدوام.. فالتطور سنة كونية تنظمها دينامكية الحركة، وهو السمة التي تطبع حياة البشر وتميزهم عن غيرهم من الكائنات الأخرى. والجمود سكون وخمود وخمول، يتعارض مع الحيوية التي تبعثها في النفوس دينامية الحركة، وهو الداء العضال الذي يعطل الحركة في التفكير، ويجعلها غير متوثبة نحو الآفاق الواعدة، وتوالي الحركات النبوية عبر العصور يدل على ما أشرنا إليه من تجديد في التشريع ومناسك العبادات.