شعاع

كيف ننجز…بالكلمات ؟ دعوة للتكوين والتدريب/حسن خليفة

تتقاطع جملة من العلوم الإنسانية في مجال “اللسان” بصفة عامة، أي كل ماله صلة بالخطاب والكلام والحديث والخُطبة وغيرها مما هو من وسائل “البلاغ ” و”الدعوة ” كما هو معروف. والمتأمل اليوم في خطابنا الديني والإيماني يجد ذلك القصور الكبير، إن على مستوى الخطاب المسجدي وهو الخطاب الذي يُتاح فيه للأئمة والدعاة مخاطبة عشرات الآلاف خلال الأسبوع الواحد من خلال الدروس ثم من خلال الخطب الجمعية.

فضلا عن المحاضرات والندوات واللقاءات المختلفة الأخرى..التي هي شيء عادي في برامج العمل الدعوي توجيها ونصحا وترشيدا..لكن الجامع الأكبر بين كل ذلك، على وفرته، هو “ضعف المحصول  وضعف النتائج”، مما نراه ونشهده ونلمسه في قلة الوعي، وقلة التأثّر، وانفصام العملي التطبيقي (السلوك) عن النظري لدى أعداد كبيرة من المسلمين والمسلمات، وتصرفاتنا وسلوكنا الاجتماعي أكبر دليل وأعظم برهان.

إذن لمَ لا نتجه إلى الاستفادة الممكنة؛ حتى لا أقول الاستفادة القصوى من هذه العلوم العظيمة النفع، واستخدامها في تحسين وتطوير أدواتنا في البلاغ والإبلاغ والدعوة إلى القيم وترسيخ مبادئ الدين، وذلك من خلال التعمّق في فهم ظواهر “الإقناع” و”التأثير” وتعديل السلوك لكل الفئات التي تحتاج إلى ذلك، صغارا وكبارا، رجالا ونساء…وحينئذ فقط يمكن القول: إننا أدّينا بعض الواجب في خدمة رسالة الدعوة الكريمة بما يستوجبه الموقف من إلمام وفهم عميق وأداء حسن.

هناك أسئلة كثيرة يمكن طرحها في هذا الخصوص، ومنها:

ـ كيف يمكن أن نستفيد من التواصل مع الآخرين حتى نحقق منسوبا أفضل من “التأثير” فيهم؟

ـ بمَ تفيدنا معرفة أحوال المتكلم وأحوال السامع في خدمة الدين والدعوة؟

ـ كيف نُكسب أئمتنا وقادة الرأي فينا المزيد من الكفاءة والاقتدار في مضمار العمل الدعوي المتشعب؟

ـ ما هو موقع الداعية والإمام وقائد الرأي والمثقف الملتزم عموما إزاء واقع تتسارع وتائر تغيّره يوما بعد آخر؟ وكيف يؤدي واجبه في ضوء هذه التغيّرات الرهيبة والواقع الحي المتحرك؟

ـ كيف يمكن أن نزيد من رقعة التأثير في الأجيال الحالية وهي ـ كما نعلم ـ على صلة وثيقة بالوسائط الإعلامية المختلفة، وعرضة لتلقّي كم هائل من المعلومات والمعطيات والأفكار في كل يوم من وسائط ومصادر مختلفة؟

وغير هذه من الأسئلة كثير…لعلّ اللبّ فيها هو: كيف نكون فعالين في محيطنا المتحرك؟ وكيف نحقق واجب الدعوة على وجه سليم، قريب من الاكتمال؟

ثمة كتاب يلخص عنوانه المراد في عالم الدعوة إلى الإيمان والإسلام والهدى والقيم، وهو عنوان كتاب لأحد علماء اللغة الغربيين (أوستن) والعنوان هو:

” كيف ننجز الأشياء بالكلمات”؟

نعم ذلك هو السؤال الجدير بالطرح في ميدان التبليغ..كيف ننجز الأشياء ..كل الأشياء ومنها تحسين سلوك الناس وتطويره وتعديله ونقله من السلبي إلى الإيجابي؟ كيف ننجز تبليغ المبادئ ونوصلها إلى القلوب والنفوس ونحقق بها الغاية المطلوبة؟ كيف ننجز التغيير في الأخلاق والفضائل وعالم القيّم لدى الناس من خلال الكلمات؟

ذلك ما أدعو إليه إخواني في الجمعية خاصة، وفي غيرها من الجمعيات والهيئات التي تهتمّ بعالم التغيير والتحسين..بأن نهتمّ أكثر وأفضل بهذا العالم العظيم الكبير من عوالم التكوين والتدريب..عالم اللغة..ونهتم بالعلوم الكثيرة المهمة فيه ومنها: علم اللغة الاجتماعي، علم الاجتماع اللغوي، علم النفس اللغوي، علم النفس التربوي، علوم اللسان وبالأخص منها علم اللسانيات الاجتماعي، علوم الاتصال المختلفة، علوم اللغة في ذاتها…بما يسمح لنا بتكوين جيد ومتين في مسائل “اللسان” و”الخطاب” ويتيح لنا جميعا، وبالأخص الأفاضل من الأئمة والدعاة والمهتمين..يتيح لنا أن نحقق كفاءة تواصلية أفضل، ونسجل تقدما في مجال القدرة على التبليغ المؤثر.

ثمة ما يجب أن نتعرّف عليه بدقة وتفصيل ممل في هذه المصفوفة التكوينية المهمة في عالم اللغة وعالم الخطاب والكلام..:

علينا أن نتعرّف بدقة على ملامح المسائل التالية: من يتحدث؟ إلى من يتحدث؟ عن أي موضوع يتحدث؟ من أجل ماذا يتحدث؟ وأين ومتى يتحدث؟

فكل عنصر من العناصر السابقة في حاجة إلى إلمام علمي ومعرفي دقيق حتى يستقيم أمر “مَن يتحدث”؟ بما يعني ـ ببساطة ـ أنه ليس كل من يريد أن يتحدث يحق له الحديث ويحق له أن يتصدر المنابر؟ فهناك عشرات الشروط والمواصفات الواجب معرفتها لمن يريد أن يتحدث إلى الناس، وليس من السهل استكمال تلك الشروط إلا بالعلم والتكوين والتدريب والتهيئة، نظريا وتطبيقيا. وكذلك الشأن في باقي العناصر ذات الأهمية في مجال الخطاب والحديث إلى الآخرين.

فهل تجد هذه الدعوة استجابة؟ وهل يتحقق لدينا الاهتمام بهذا المجال المهم الرائع حقا في فضائنا الإصلاحي الدعوي؟ وهل ننخرط في مسلك الإعداد الجيد للمتحدثين والدعاة والمتصدّرين؟ ينبغي هنا أن نستحضر أن من وسائل جمعية العلماء في تكوينها للأبناء في المراحل الأولى من التعليم تدريبهم على “الخطابة” وإعدادهم بشكل مكثف للحديث إلى الناس، فإذا “نضج” أو قارب على النضج أحدهم أُرسل إلى إقليمه أو دوّاره للخطابة في الناس والقيام بشأنهم دينيا وتوجيهيا، فضلا عن الصلاة بهم.

ما أرجوه هو أن نحلّ هذا الأمر محلّ أولوية يستحقها، بالاتجاه في هذا السياق والانكباب على العلوم التي تتيح لنا تكوينا متفوقا وإعدادا جيدا وتدريبا عاليا. والحمد لله الأساتذة الجامعيون في التخصصات المشار إليها موجودون ..وبرامج التكوين سهلة ميسّرة والاحتياج كبير في هذه المسألة.

فقط علينا أن نُعدّ مجموعة موادّ تكوينية في مجال “مهارات التواصل” أو مهارات الحديث؟ أو كيف تكون متحدثا جيدا ومؤثرا، وندرس المادة كمقياس نظري ـ تطبيقي ونتدرب على ذلك ما تيسّر من الوقت.

وفي النهاية سنجد أعدادا من المقتدرين والمقتدرات ذوي وذوات الكفاءة العالية في هذا المجال.

والله المستعان.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com