القرآن الكريم كافل وحدة الأمة/ د. إبراهيم نويري
من أفضال الله تعالى على هذه الأمة المسلمة، أنْ مَنّ عليها بحفظ قاعدة وأساس كيانها وهُوّيتها المتميزة، المتمثلة في كتاب الله عزّ وجلّ وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، كما هو ثابت في قول الله سبحانه وتعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر:9)؛ فالقرآن هو آية الله الباهرة ومعجزة نبيّنا الخالدة..بتراكيبه وأساليبه، وبفصاحته وبلاغته، وبحكمه ومراميه، وبمبادئه وإرشاداته وتعاليمه وهداياته، وبما اشتمل عليه من المُثل العليا والنُّظم القويمة والآيات البيّنات التي حيّرت ذوي النُّهى، وبهرت الأفئدة والعقول والأذواق:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصلت:41/ 42).
إن قلوب المسلمين وضمائرهم وأفئدتهم منعقدة بصفة تامّة كاملة على أن القرآن الكريم إنما هو المصدر الأول الأصيل لتعاليم الإسلام وتوجيهاته كلّها، فهو من المصادر الأخرى ــ في المنهج الإسلامي والرؤية الإسلامية ــ بمنزلة الجذع من فروع الشجرة وثمارها..فكتاب الله تعالى إنما هو قطب الإسلام ومنبع شرائعه، والدستور الذي يقتعد الصّدارة فيما يضمّ من توجيه وأدب ووصايا وأحكام وإرشادات، ومنه تؤخذ الصور العامة لما يرضاه الله لعباده في شؤون حياتهم، ومناحي تفكيرهم، ومعالم سلوكهم..والمؤمن بالقرآن يستحيل أن يرجّح على دلالته دلالة، ذلك أن القرآن يعلو ولا يُعلى عليه، وأنه يحكم على سائر الأدلة الأخرى، ولا يحكم شيءٌ منها عليه.
ومن غير شك فإنّ مبدأ وحدة الأمة إنما يستمدّ مسوّغات طرحه وأصالته وثباته من القرآن الكريم، الذي يشكّل المرجعية الأولى لجماعة المسلمين، والنص الثابت الذي تُستقى منه الهداية في الإيمان والمعتقد والسلوك والعلاقات؛ فمن البداهة في هذا السياق القول بأن كلّ تعابير الهداية القرآنية تزخر بمبادئ ومعاني الأُخوة والتوحّد والألفة والتعاون والاعتصام بحبل الله، أي تزخر بالأسس المعنوية التي تجعل من جماعة المسلمين أمةً واحدة في معتقدها وحضارتها ومقوّمات وجودها.
ولقد تعدّدت وتنوعت الآيات القرآنية التي تدعو إلى الوحدة، وتحثّ على التناصر والتكتل والتكامل والتضامن بين المسلمين..ومن ذلك:
قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(الأنبياء:92).
وقوله:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}( المؤمنون:52).
وقوله:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ..}(آل عمران:103).
وقوله:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:71).
وإذا كان القرآن الكريم هو المنبع الأول للتلقي والاستمداد لدى المسلمين، والمعيار الثابت في المنهج الإسلامي الذي تُردّ إلى مقاييسه وقواعده ونُظمه كلّ الأفعال والأعمال والمسالك والمعارف والأفكار والمواريث، وإذا كانت الآيات والتوجيهات الصريحة الواردة فيه، بإزاء مسألة الوحدة والاتحاد والاعتصام والمؤاخاة، قد وردت في آيات قطعية الدلالة، تنطوي في صيغتها اللغوية على دلالات الوجوب، كما يعبّر علماء أصول الفقه، أدركنا على وجه اليقين الراسخ مركزية ومكانة الوحدة بين المسلمين في المرجعية الإسلامية التي يمثل القرآن الكريم فيها الركن الأول.
ولا ريب أن هذا الإدراك والاعتبار ليس مقتصراً على المسلمين ولا على العرب وحدهم دون غيرهم من بني البشر..
بل إن أعداء الإسلام كذلك المناوئين والحاقدين والشانئين له في الشرق والغرب قد أدركوا أيضا مدى وحدود أهميّة القرآن الكريم في توحيد الأمة، وفي إمدادها وشحنها بالقوة الإيمانية، وأدركوا ما يمثله القرآن من خطر على أطماعهم في خيرات أمتنا ومكاسبها المعنوية والمادية، فقال غلادستون ” Gladstone” وزير بريطانيا الأول وكبير أعمدة الاستعمار في الشرق الأوسط:” ما دام القرآن موجوداً فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، بل ولا أن تكون هي نفسها في مأمن”.
والله وليّ التوفيق