مراوغات ديبلوماسية للغة الأم في قصر الأمم ..”وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ” مستقبل اللغة العربية .. إلى أين؟/ محمد مصطفى حابس
انتقد سياسيون وفاعلون عرب وجزائريون على مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام حديث وزير الخارجية الجزائري، عبد القادر مساهل، باللّغة الفرنسية في كلمته التي ألقاها نيابة عن الرئيس بوتفليقة في الجمعية العامة للأمم المتحد بقصر الأمم.
واعتبر آخرون، أن استخدام الوزير مساهل للفرنسية، لغة المستعمر المستدمر “تفريط في السيادة الوطنية وانتهاك للدستور الجزائري” قائلين أن “عدم اتخاذ إجراءات سيادية تجاه هذه الحادثة دليل على عدم صدق أصحاب القرار في حديثهم المتكرر عن الوطنية واحترام ثوابت الأمة”، وكتب آخرون، في صحيفة القدس العربي، منددين بقولهم: “إن الوزير مساهل، الذي سبق له أن خطب بالفرنسية في محافل لا تفهم الفرنسية أكثر من العربية، عاد ليخطب بلغة «موليير» مرات أخرى، مع أن الجميع يعلم أنه يتحكم في اللغة العربية بشكل جيد، وبإمكانه أن يلقي خطابا بلغة الضاد التي تعتبر اللغة الوطنية والرسمية الأولى في البلاد”.
كثيرة هي الأحداث المثيرة للجدل في المحافل الدولية عن العرب وحكام العرب، وأذكر أني كتبت عنها في مناسبات سابقة منذ سنوات، كما كتب غيري لما اشتكى العديد من المترجمين العرب من ظاهرة كادت أن تقضي على اللغة العربية في أروقة الأمم المتحدة بجنيف ونيويورك، علما أنها لغة رسمية معتمدة مع خمس لغات أخرى، رغم ذلك يزهد فيها الحكام العرب ويفضلون التلكؤ بلغة فرنسية ركيكة أو إنكليزية مبتذلة، مما أحال فعلا فيالق من المترجمين العرب على التقاعد المبكر، أو تبديل المهنة!!
ومن الأحداث المثيرة والمقززة والمنفرة استخدام وزير خارجية دولة عربية كالجزائر للغة الفرنسية على حساسياتها المفرطة خلال خطابه الأخير في الأمم المتحدة ما أثار جدلًا وردود فعل غاضبة بين المتابعين.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتكلم فيها عبد القادر مساهل بالفرنسية في محفل دولي ودائمًا يلقى ردودًا شعبية رافضة من الجزائريين، لكن لا حياة لمن تنادي!!
واستذكر معلقون كثر عرب وعجم أيام الزمن الجميل وقفة الرئيس الراحل هواري بومدين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ليلقي خطابا باللغة العربية الفصيحة، حيث كان أول زعيم ورئيس جزائري يخطب في الأمم المتحدة بالعربية وهي من اللحظات التي يعتبرها الكثير من الجزائريين مفخرة لهم.
كما استذكروا أيضا مواقف العلامة الأمازيغي الوزير مولود قاسم، أثناء اجتماع لمجلس الوزراء في عهد الرئيس الجزائري الراحِل هواري بومدين لما قَدّم غالبية الوزراء تقاريرهم باللغة الفرنسية، ولمّا جاء دور المرحوم مولود قاسم خاطبهم باللغة الألمانية التي يتقنها جيدا كما يتقن الفرنسية جيدا و لغات أخرى عديدة!!
فاندهش الجميع من كلامه لكونهم لم يفهموا حرْفاً واحدا مما قاله، باستثناء الرئيس بومدين الذي عبّر عن موقفه بابتسامة عريضة، باعتبار أنه يعرف جيدا المواقف الرجولية لمولود قاسم ويعلم كذلك أن هذا الأخير لا يتصرّف بارتجالية وكل ما يقوم به إلا ووراءه تبريرٌ مُقْنِع ؟؟؟
وبعد أن تحدّث قليلاً وقد لاحظ مولود قاسم نايث بلقاسم علامات الدهشة والاستغراب على وجوه الحضور صارحهم قائلا:” الأصل أننا وزراء نعيش في دولة تتبنى اللغة العربية كلغة رسمية، والواجب أن نتكلم بها جميعاً، أما إذا كان الأمر يتعلق باختيار اللغة عن حُب فأنتم تحبون الفرنسية وتتكلمون بها وأنا أحب الألمانية وأتكلم بها!!”، فبهت الذي كفر!!
ويوم أول أمس في واقعة قد تبدو غريبة، بل صفعة لوزير خارجيتنا، بحيث افتتحت وزيرة خارجية النمسا كارين كنايسل خطابها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة باللغة العربية. وقالت الوزيرة النمساوية إنها تعلمت اللغة العربية في مركز الأمم المتحدة في العاصمة النمساوية فيينا، وهي تتكلم العربية اليوم لأن اللغة العربية واحدة من 6 لغات رسمية معتمدة لدى هيئات الأمم المتحدة. وقد أثار خطابها اهتمام الحاضرين في الأمم المتحدة وصفقوا له طويلا، وتناقله الناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بإعجاب.
وأضافت بقولها أنه “للإنسانية صوت في قاعة الجمعية العامة، وأستخدم هذه اللغة العربية للتعبير عن صوت أولئك الذين هم خارج هذه القاعة، ويعيشون وسط الحروب والصراعات، لاسيما في الشرق الأوسط”.
وتتحدث وزيرة الخارجية النمساوية فضلاً عن الألمانية -لغتها الأم- سبع لغات أخرى، هي: الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والعربية والإيطالية والعبرية والمجرية، وقضت جانباً من طفولتها في العاصمة الأردنية عمّان، حيث عمل والدها طياراً خاصاً للملك الأردني الراحل الحسين بن طلال، وأسهم بعد ذلك في تأسيس الخطوط الملكية الأردنية.
وأمام هذا الموقف المبهج والمقلق لحرية التعبير وبلغة استصغرها قومها حري بحكامنا أن يعودوا لهذه اللغة التي اختارها الله ترجمانا للقرآن في قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف:2]، {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الزمر:28].
فالعربية تنعى حظها اليوم مع بعض تصرفات ممثلي دولنا، متناسين فضلها ورسالتها على الإنسانية قاطبة، وكما قال شاعر النيل، حافظ إبراهيم، رحمه الله: “وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ “.
حقيقة في مقالي هذا عن سياسة دولنا في استهجان لغتنا العربية وازدراء قدرها، سأتجنب قدر الإمكان التعريفات التقليدية المعروفة للغة العربية والبكاء على الأطلال، لكني تراني أعود لبعض بديهيات اللغة العربية على أنها لغة سامية يتحدثها أكثر من 422 مليون لسان، وعشرات الدول والأقوام ..الخ، لكن أقول بأنها اللغة التي ضربت بجذورها في عمق التاريخ وتكيفت مع مختلف الأزمنة والأمكنة، فحافظت على مكانتها، بل وزادها ذلك انتشارا في ربوع الدنيا، ناهيك عن خصائص اللغة التي تتميز بها لغة الضاد بثراء رصيدها من الكلمات والصيغ، إذ اعترف بها وافتخر بها أقوام لا علاقة لهم لا بالعرب ولا بلاد العرب، بل لا علاقة لهم لا بالإسلام ولا بأرض الإسلام، منهم -على سبيل المثال- المستشرق الفرنسي رينان:
“من أغرب المُدهِشَات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرّحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسب نظام مبانيها، ولم يُعْرَف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبَارى، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة”.
قالت عنها المستشرقة الألمانية زيقريدر هونكه:”وكيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم، وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صَرْعَى سحر تلك اللغة”.
ويقول المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون:” اللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي، والعربية من أنقى اللغات، فقد تفردت في طرق التعبير العلمي والفني”.
واليوم حق لنا أن نتساءل بجد وحزم عن مستقبل اللغة العربية في الجزائر.. إلى أين؟ علما أن هذا التساؤل عن مستقبل اللغة العربية سبق أن طُرِح منذ أكثر من قرن إبان عهد الاستعمار، حيث يرى بعض المفكرين أن اللغة العربية ستبقى حيةً مادام القرآن الكريم محافظاً عليها، وإذا كانت كل الآراء السابقة تشير وتؤكد وتعزز حقيقة أن اللغة العربية لغة حية، فإنها ستبقى ولا خوف عليها رغم بعض النكسات التي يمكن أن تمر بها عبر مسيرة الزمن. وقد أثبت التاريخ أن اللغة العربية قادرة على مواجهة تحديات العصر القادم الذي يمتاز بتغييراته التكنولوجية السريعة. والعربية وعاء الإبداع، وهي المترجِمة لنظام القيم في الأمّة، وقد كانت لغة العلم والتعليم ردحاً من الزمان ليس هيناً. وهي من أكثر اللغات الإنسانية ارتباطاً بالهويّة، وقد صمدت هذه القرون الطويلة، وظلّت سجِّلاً أميناً لحضارة أمّتها في أحوالها كلّها، والحرص على العربيّة هو حرص على هذا السجلّ الإنساني العريق.. فهل من معتبر يا حكام العرب!!
…