حول النهضة الاقتصادية!/ د. علي حليتيم
يتساءل الكثير من المواطنين الجزائريين حول سبل الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي نعيشها في بلدنا منذ عقود من الزمن وهي آخذة في الشدة يوما بعد يوم، ويكتب الخبراء والصحفيون والإعلاميون عن الخطة الاقتصادية التي ينبغي لنا أن نسطرها ونسلكها، واللمسة السحرية لبلوغ طريق النهضة الاقتصادية التي بلغ فيها الناس قمما لم نعد نراهم من شهوقها بينما ننحدر نحن نحو أناس ما كنا نظن يوما أنهم سيلحقون بنا حتى نزلنا نحوهم.
وتضع الحكومات المتعاقبة في خططها الخماسية البرامج تلو البرامج للنهضة المنشودة فتعد تلك البرامج بالإقلاع العظيم والرقي المنشود والنعيم الوافر للجميع وبأننا عما قريب سوف نسبق البرازيل والهند وكوريا الجنوبية أو جنوب إفريقيا وتركيا ثم تأتي الخيبة تلو الخيبة وعوض التقييم والوقوف على أسباب الخلل ننطلق من جديد في برامج جديدة ووعود جديدة تليها خيبات جديدة.
ما أسهل الوصول لمن يسلك سبيل الوصول وما أصعب الوصول لما يسلك غير سبيله بل إنه كلما مشى كلما ابتعد عن الطريق وضل السبيل.
ما أسهل طريق النهضة الاقتصادية في الجزائر لو كنا نبصر بأعين ترجو النظر وتسمع بأذان ترجو السمع وتريد لهذا البلد حقا أن يسلك سبيل الإقلاع والغنى والرفعة. وقد يقول قائل إن كاتب هذا المقال يتكلم من فراغ ويخبط خبط عشواء ويضرب الريح بسيف من خشب.
وكاتب هذا المقال ليس مختصا في الاقتصاد ولا يريد أن يخوض في النظريات الاقتصادية ولا في الخطط لكن النهضة تنطلق من رؤى وفكر صحيحين قبل أن تكون مسألة خطط وتقنيات، ولذلك كان كبار رواد النهضة في بلدانهم من غير المختصين في الاقتصاد كالطبيب مهاتير محمد في ماليزيا مثلا.
ولا يريد كاتب هذا المقال أن يقارن الجزائر بنمور آسيا ( les quatre dragons ) ولا بالدول الصاعدة ( les pays émergents ) ولا بغيرها من الدول التي وجدت سبيلا للنمو.
إن النمو في الجزائر هو أسهل الأمور التي يمكن أن يحلم بها إنسان لأننا حين يسلك الناس سبل النمو فإننا سوف نسلكه في الجزائر في بلد غني ينطلق من الصفر!
ما أسهل على من ينطلق من الصفر أن يصل إلى مسافة سرعة مقبولة في الزمن الوجيز. ما أسهل على من كان قاعدا أن يسلك بعض الطريق وعلى سيارة مركونة أن تنطلق فتبلغ سرعة يرضاها الراكبون. إن الجزائر لا تملك زراعة ولا تملك صناعة ولا تملك تجارة سوى تجارة بيع البترول واستيراد كل شيء، ولا تملك سياحة ولا تملك بنية اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية إلا قليلا!
هذه الحقيقة المرة يجب أن نقولها لأنفسنا لكي نعترف بواقعنا أولا ولكي نعرف أن الانطلاق الاقتصادي سهل وميسور في بلد سوف ينطلق من الصفر فيبلغ حين يريد السرعة المطلوبة .
ما أسهل أن ننطلق في خططنا البسيطة ونحقق مطالبنا الأساسية في الزراعة من القمح والحليب واللحوم وباقي المواد الزراعية في أكبر بلد في العالم يحقق كل عام واحدة من أعلى معدلات استيراد القمح وأعلى معدلات البطالة في العالم. ومن السهل أن ننطلق في خطة صناعية لنحقق مطالبنا الأساسية من الصناعة كالملبس وغيره.
إن الجزائر حين تنظر شمالا فإنها سوف ترى أمامها أمثال فنزويلا التي اعتمد اقتصادها طول مسيرته على الريع البترولي فلما نضب الريع ورفض الغرب مد يد العون وأبى أن يعيد جدولة الديون البالغة مائة وخمسين مليار دولار تحولت فجأة من الغنى إلى الفقر والبؤس ودخلت في حالة من اللا دولة ومن اللا اقتصاد ومن اللا عيش وهجرها مواطنوها وبلغت الهجرة خارج البلد في زمن وجيز مليون شخص حتى أغلق عليها جيرانها الحدود لأنهم لا يريدون أن يستقبلوا أشخاصا بائسين لا يملكون أي شيء.
وحين تنظر الجزائر يمينا فإنها سوف تبصر دولا مثل تركيا والهند وكوريا الشمالية والبرازيل وإفريقيا الجنوبية وهي دول ليست مثلنا للقدوة ولكنها مثال صالح لمن يستثمر في إمكانياته الخاصة وينطلق من الصفر ويسطر خطة استراتيجية بسيطة جدا تقوم على أساس أنه أي دولة ينبغي أن تبني اقتصادها على إمكانياتها الذاتية ولا تربط اقتصادها بالوهم الغربي الذي يخطط للتبعية حتى لا تتحرر الدول.
أما إذا بنت الدولة اقتصادها بنفسها وحصنت أسوارها بالزراعة والصناعة والكفاءات المحلية فإن اقتصادها سوف ينمو ويزداد كل عام وقد يتعرض إلى الزلازل لكنه لن يتلاشى.
عندما كلمت أحد رجال الأعمال الأتراك في العام الماضي عن الأزمة التركية قال لي لا خوف علينا ولا تخشى علينا شيئا فقلت له لماذا؟ فقال: لأن تركيا تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع، قد يضربون اقتصادنا ضربات قوية جدا لكننا سوف نصبر ونتماسك ثم نقوم بعد ذلك أقوى مما كنا عليه.
إن اقتصاد الريع لن يجلب لنا إلا الخراب والجزائر ليست بحاجة إلى خطة اقتصادية بل بحاجة إلى صدق اقتصادي يوقف الفساد الذي لن تنفع معه أعظم الخطط، ثم هو بحاجة إلى استثمارات سهلة وميسرة في الزراعة النباتية للمواد الأساسية والزراعة الحيوانية لتحقيق الاكتفاء في المواد الأساسية وهو كذلك بحاجة لصناعة سهلة وميسرة يحقق بها اكتفاءه في المواد الأساسية.
إن الصين هي ثاني اقتصاد في العالم لكن كل الخبراء والمتتابعين للشؤون الاقتصادية يعلمون أن الصين ليست متفوقة في أي شيء لا في الصناعة ولا في التكنولوجيا على الغرب ولم تبدأ تنافس الغرب في براءات الاختراع أو في جودة التقنيات العالية إلا بداية محتشمة منذ سنوات قليلة واقتصادها يواجه أزمات خطيرة جدا في مقدمتها أزمة أزماتها البيئية الخانقة والمشاكل الهيكلية. ولكن قوة اقتصاد الصين هو أنها بدأت من الصفر وانطلقت انطلاقة سهلة وبسيطة في التصنيع حيث بدأ تصنيع كل المواد السهلة ثم تدرج من الأسهل إلى الأصعب وبدأت في زراعة موادها الأساسية حتى حققت الاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة ثم انطلقت نحو التصدير. ما أسهل أن نحقق اكتفاء في هذه المواد إذا كنا نريد ذلك وما أخيب الجزائر إذا استمرت تستورد قمحها من الخارج وتستورد حليبها من الخارج!
إن سياسة جمع المال بالتقشف والضرائب ومنع الاستيراد لن تزيدنا إلا فقرا، ولن تزيد الفساد إلا استفحالا كما تبين الدراسات. جمع المال لن يكون محمودا حتى تخلق الثروة والثروة هي الزراعة والصناعة.
لكننا لن ندرك هذا الطريق ونحن بعيدون عن الله ونبتعد عنه كل يوم وهذا هو أساس النظرة الاقتصادية في الإسلام، قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(النحل/ 112).