جمعية العلماء والمبادرات السياسية../ التهامي مجوري
قد لا يرى من لا يعرف طبيعة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الرسالية، أن لها دورا سياسيا في الجزائر، لكونها تقول عن نفسها إنها انشغلت بالتربية والتعليم والدعوة إلى الله بما تدعو إليه من الإصلاح العام والأخلاق الفاضلة.
أما من يعرفها ويعرف طبيعتها ورسالتها في المجتمع، فيدرك أن لها دورا سياسيا هاما، ولكنه دور بعيد عن الحزبية والسلطوية، لأن انشغالها بالسياسة ليس بمفهومها الحزبي، وإنما بمفهومها العام الجامع لقوى المجتمع.
فهي لا تناضل من أجل الوصول إلى السلطة، ولا تدعم حزبا على حساب حزب في مواقف سياسية معينة، ولا تساند شخصية على حساب شخصية في مناسبة ما، وإنما تعمل على توسيع القواسم المشتركة بين أبناء الجزائر عموما، انطلاقا من ثوابت المجتمع الراسخة. أما الخيارات الحزبية فلأفراد المجتمع خياراتهم بما يناسب ميولاتهم السياسية.
وفي الأزمات والحالات الاستثنائية والملمات التي تطرأ على المجتمع، فإنها لا ترى نفسها أبعد من الأحزاب والسلطة عن المعمعة السياسية؛ لأن طبيعة الأزمات أنها تتجاوز الجميع، رسميين وشعبيين وسياسيين ومثقفين ودعاة ومفكرين، بحيث لا يمكن التغلب عليها إلا بتضافر جهود الجميع ولملمتها في أطار اجتماعي أو سياسي أوسع، يسميه البعض الوفاق الوطني، ويسميه البعض الآخر التوافق الوطني، ويسميه فريق ثالث التوافق الديمقراطي، أو الجدار الوطني أو الحركة الشعبية، وإلى ما هنالك من التسميات، التي تبحث عن وعاء جامع، يتجاوز البرامج الحزبية وإملاءات السلطة، مهما أوتيت من قوة وفاعلية.
وإذا كانت الطبقة السياسية –ربما- تنظر إلى هذه النماذج التوافقية التي تدعو إليها، عبارة عن موقع يتنازل الفرقاء فيه عن بعض طموحاتهم أو عن بعض مبادئهم وخصائصهم..، فإن جمعية العلماء تنظر إلى التوافق على أنه ارتقاء بالخطاب والممارسة والبرامج والأهداف إلى الغايات الكبرى الجامعة، حيث تلجأ الطبقة السياسية، وكل مهتم بالشأن العام، إلى ترتيب أولوياتهم وفق المعطيات الجديدة التي فرضها واقع ما يهدد الجميع، وانطلاقا من مستوى الشعور بالمشكلة التي تَسَاوى فيها الجميع، فيكتشفون أنفسهم في إطار جامع أكبر من الإطار الحزبي أو السلطوي والقِوى الحاكمة.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:64]، وتعَالَوْا –بفتح العين واللام- هنا بمعنى ارتفعوا وليس لمجرد المجيء استجابة للنداء؛ لأن الاتفاق على خص الله بالعبادة وضمان الحريات للناس –لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله-، في حد ذاته ارتقاء، يذلل كل الصعاب التي بين المختلفين بعد ذلك.
إن بلادنا تمر بمرحلة تعد واحدة من أصعب المراحل التي مرت بها، على الصعيدين السياسي والاقتصادي. واقع فرض على الجميع الترقب من غير أن يكون لجهة رأي قطعي أو موقف فاصل.. هذا اقتصاد مهزوز.. وذاك حبل للثقة مقطوع بين الجميع..وتلك رئاسيات على مرمى حجر، ولا مؤشر يوحي بقربها.. أو بالصورة التي ستكون عليها، وذلك نشاط سياسي في حكم العدم..كل هذه الأمور تدعو إلى المبادرة تلو المبادرة من أجل تجاوز هذه المحنة التي إذا طالت –لا سمح الله- فإنها لا تبقي على أحد من أبناء الجزائر؛ لأنها الفتنة –حينئذ- التي قال الله تعالى عنها{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 25].
يذكرني واقعنا هذا الذي نعيشه اليوم، وبضرورة الإسراع بالتفاعل معه بما يستحق، بالمؤتمر الإسلامي، الذي دعا إليه الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله سنة 1936، عندما علم بأن النخبة السياسية عازمة على رفع لائحة مطالب إلى الاشتراكيين الذين وصلوا إلى الحكم في الإدارة الاستعمارية، فدعا ابن باديس لتنظيمٍ مؤتمر إسلامي شاركت فيه جميع القوى السياسية الجزائرية الناشطة في الساحة الجزائرية يومها.
وعلى الرغم من فشل المؤتمر في الوصول إلى غاياته الكبرى، فإنه حقق لأول مرة أهم مكسب سياسي في تاريخ الحركة الوطنية، وهو لملمة القوى السياسية على مائدة كالأسرة الواحدة، ولذلك يعتبر أهل التاريخ أن المؤتمر الإسلامي الجزائري منعرج سياسي هام في تاريخ الجزائر، التقت فيه القوى الوطنية كأسرة واحدة، اجتمع فيها الليبرالي بالشيوعي والإسلامي، كلٌّ تقدم في هذا المؤتمر بما عنده، من اجتهادات، بلا مزايدات ولا تواضع كاذب أو ترفع فج؛ بل إن الدارس لتلك التجربة يلاحظ أن الجميع استفاد من بعضه البعض، ولم يشعر أحد من الفِرَق المشاركة بالترفع عن بعضه البعض أو أحس بالنقص أمامه؛ لأن التوافق لم ينعقد بناء على تنازلات مفترضة في طرف أو أطراف، وإنما التقى الجميع على تصور لكيفية التعامل مع الاستعمار، وعلى المطالب التي ترتقي بالمجتمع إلى الأفضل والأرقى، فكانت النتيجة وكأن القوم تقاسموا الأدوار في انتزاع ما يريدون من فرنسا.. فالمؤتمر وإن لم يحقق المطلوب كما ذكرنا، فإنه حقق مبدأ كان غائبا في الساحة السياسية وهو التوافق الذي لم تعرفه الحركة الوطنية قبل ذلك اليوم.
لا شك أن هناك مواقف رافضة لهذا المؤتمر، منها على وجه الخصوص موقف نجم شمال إفريقيا، ولكن في تقديري لو كان لهذا الحزب وجود في الجزائر يومها ونشاط مكثف كالذي كان بعد ذلك –بعد 1937- لحزب الشعب الجزائري، لكان الموقف غير الموقف والرأي غير الرأي.
وكذلك اليوم..للناس آراء متباينة في الأزمة، وهذه الآراء لم تستطع التغلب عليها طيلة هذه الفترة على الأقل فيما بين 1988 و2018، ومن ثم لابد من صيغة تجتمع فيها النقاط المؤثرة في الواقع من أي وعاء كانت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ