قضايا و آراء

الفنّ…ثغرة في مشروعنا(01)/ عبد العزيز كحيل

كلمة أولى: استقرّ رأي الراسخين من علماء الشريعة والدعاة الربانّيين العارفين على إباحة استعمال الوسائل والأدوات والأساليب المبتكَرة في خدمة الدعوة إلى الله ما لم تكن مخالفة لأحكام الشرع مخالفةً صريحةً، ويبلغ هذا الاستعمال درجة الاستحباب ويتجاوزها إلى منزلة الواجب عند الاقتضاء بحسب الأحوال ومصالح الدعوة والمدعوّين، والنصّ على المخالفة الصريحة يُخرج إمكانية التحريم بالتأويلات البعيدة والمسوّغات العاطفية التي تجنح إلى التشدّد لمجرّد الشبهة أو التشبّث بالقديم لأنه اكتسب قداسة بالقدَم أو خوفا ممّا يحمله الجديد من مخاطر على شرع الله تعالى، مع أن أكثر ذرائع التحريم في هذا المجال لا يَبرح دائرة الاحتمالات البعيدة والمفاسد الموهومة، وهل يعقل أن يجعل الله تعالى الدنيا تسير على سنّة الحركة الدائمة، تتغيّر وتتجدّد على جميع الأصعدة من غير توقّف، ويكتب على الوسائل وحدَها الثبات والاستقرار؟ لقد نصّت آية الإعداد على رباط الخيل – وهي أداة الجهاد زمن التنزيل – ولم يفهم عاقل أنّها هي بذاتها مراد الله، ولا يختلف عاقلان على الأخذ بكلّ أداة حربية مبتكرة لأنّ الغاية هي الانتصار في الجهاد وليست المحافظة على الوسيلة والأسلوب، لكنّ هذه الحقيقة على بساطتها ووضوحها استشكلها المتمسّكون بالأشكال لمجرّد أنّها كانت سائدة في الزمن الأوّل المشهود له بالخيرية، رغم أنّ هذه الخيرية مرتبطة بالغايات والمقاصد، أي بالانجاز القوي المتميّز الذي يستخدم كلّ أداة ثبتت فعاليتها وجَدواها ولو لم يَرد ذكرُها في قرآن ولا سنّة ولا عرفتها الأجيال السالفة، وحتى ولو ابتكرها غير المسلمين، لأنّ الشأن الدنيوي تراث إنساني مشاع بين الأمم، إذا وُجد فيه جزء غير مستساغ في شرعنا أزحناه واحتفظنا بالباقي ما دام نافعًا، وتستوي قاعدة الإباحة –التي هي الأصل في الأفعال – على الوسائل المادية الحسية والمعنوية الاعتبارية، ومن النوع الأخير نذكر الفنّ، وهو موضوع هذه الورقة.

تفريط يؤرقنا: اليوم أدرك أبناء الحركة الإسلامية وأنصار المشروع الإسلامي مدى الخطأ الذي ارتكبوه منذ عقود حين عزفوا عن الاشتغال بمختلف مجالات الفنّ وعن توظيفها في خدمة الدعوة وتبليغ رسالتهم، وزهدوا فيها، وذهب غير قليل منهم إلى اعتبار كل حديث عن الفنّ مخالفة شرعية ونقيصة تشوب السّمت الإسلامي أو ترفًا يجب الترفّع عنه، وسببُ ذلك انتشارُ فقه التنطّع والغلظة الذي يميل إلى التحريم كأنّه الأصل في الأشياء والأفعال، من غير نظر إلى فقه الحياة والواقع، ولا حتى تدقيق أصولي ومقاصدي في الأدلّة الشرعية، وها نحن نعضّ على أناملنا من الندم ونحن نرى الأعمال الفنية المختلفة تنتشر انتشارًا واسعًا وتغزو القارّات وتدخل البيوت بغير استئذان وتستولي على القلوب والمشاعر، وهي –في أغلب الأحيان – سلاح في يد العولمة المتجبّرة والعلمانية العربية الرافضة للإسلام وشريعته وأحكامه وأخلاقه ومنهجه، فلم يسَع الخطباء والدعاة إلاّ البكاء على الفضيلة المقصاة من السينما والمسرح واللحن والرسم، وهل تنفعنا الصيحات المتحسّرة أو التنديد بالمشروع التغريبي الذي تحمله تلك الوسائل وتحارب به –بطريقة مباشرة أو ملتوية – مشروعنا الحضاري وديننا وأخلاقنا وقيمنا؟ وهل يجوز أن نلقى باللائمة مرة أخرى على خصومنا بدعوى أنهم ضايقونا ولم يدعوا لنا فرصة لولوج تلك المجالات التي أصبحت من أنجح وأشدّ وسائل التأثير على الجماهير والنخَب والناشئة؟ الحقيقة المرّة أننا نتحمّل المسؤولية كاملة في التفريط، إذ كان يمكن أن تُدمج الحركة الإسلامية في مشروعها النظري العمل الفنّي باعتباره أداة إنسانية فاعلة يُمكن تحويلها من السلب إلى الإيجاب ومن الهدم إلى البناء، فهذا أفضل من تركها للعلمانيّين يستأثرون بها ويستثمرونها في خدمة المشروع التغريبي ونشر الأفكار والعادات الوافدة التي تحارب الدين والأخلاق في الصميم وتُسهم بقدر وافر في التشويش على القلوب والعقول وعلى أداء المسلمين لمهامّ العبادة والخلافة والعمارة، لأنها تذهب بتميّزهم وتُحيلهم إلى مجرّد مستهلكين لإفرازات المرجعية الغربية المتمكّنة.

وبينما تحفل الأعمال الفنية الغربية والعالمية بخدمة تاريخ الشعوب لقضاياها لم ننجز ما نخدم به قضايانا المصيرية وعلى رأسها فلسطين.

السينما والمسرح: لا يختلف اثنان حول خلوّ التمثيل السينمائي والمسرحي من الحضور الإسلامي خلوّا تامّا رغم خطورته القصوى في مجال التأثير الواسع، حتّى إنّ الفيلم الواحد قد يغلب خُطَبًا منبرية عدّة، كما أنّ تمثيلية واحدة حسنة الحبك قد يتجاوز صداها كُتُبًا كثيرة، فنحن عالة على خصومنا في ميدان ما عاد يخفى خطره النفسي والاجتماعي على أحد، والحلّ لا يكمن -بطبيعة الحال – في موجة التحريم ولا الدعوة إلى تجاهل الأفلام والمسرحيات ولا صبّ جام الغضب على أهل الفنّ المنحرفين، فهذا من السلبية التي لا تحلّ مشكلة بل تزيدنا شحنًا سلبيًا يفجّر الذات ويذهب بقدراتها وينعكس على المجتمع والدعوة والدين في أشكال متعدّدة كلّها وخيمة العواقب لأنّها تمثّل نوعًا من الانتحار المعنوي بسبب الضغط والغيظ والكبت، وما يؤدّي إليه كلّ ذلك من ردود أفعال غير محسوبة العواقب، لا تخدم الإسلام والمسلمين في شيء.

إنّه من الواجب الحتميّ أن تلتفت الحركة الإسلامية وكلّ العاملين للإسلام إلى البديل المطلوب، وهو ليس عسير المنال كما كان في الماضي، وتوظيف الطاقات البشرية والمالية وإنفاق الوقت والجهد في العمل الفني باعتباره بابا يدخل في أكثر من واحدة من شعب الإيمان ومجالات عمل الخير، كالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم وردّ كيد الأعداء وبيان محاسن الإسلام وتربية الناس والتوعية والإرشاد، فلابدّ أن يتخصّص شباب إسلامي ملتزم في فنون الإخراج والتمثيل وكتابة السيناريو وغيرها ممّا أصبح معروفًا، له مدارس ومعاهد، وتستثمر أموال في الإنتاج فنتمكن من مزاحمة العلمانيين ومنافستهم،لأنّ الحقّ الذي معنا أقوى من الباطل كلّه، غير أنّنا عجزنا منذ عقود عن تقديم جواهرنا وحسن عرضها، وبَرَعَ الخصوم في تزيين بضاعتهم المتخمة بالشبهات والشهوات، فامتلكوا ناصية السينما والمسرح، في حين أنّ بعض المنتسبين للعلم الشرعي عندنا مازالوا يحرّمون حتى الأناشيد الإسلامية بغير إيقاع ويعدّونها من السماع المحرم، لكنّ عامّة الملتزمين بدينهم على وجه الأرض تحرّروا من أصر مدرسة الرأي الواحد المتّسمة بالعداء لكلّ جديد، وهذا من بشائر التحوّل النوعي في خدمة الإسلام اعتمادًا على فقه الحياة والمرونة في التعامل مع الثروة الفقهية.

يتبع

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com