قراءة في تصريح “داء الكوليرا”

بقلم: أ. التهامي مجوري
قال أحدهم إنَّ داء الكوليرا ليس في الجزائر فحسب، وإنمّا هو موجود في اليمن ونيجيريا وتشاد، وفي دول أخرى متقدمة، ولكنها تخفي الإعلان عنه، ونحن في الجزائر نملك الشجاعة للإعلان عن ذلك!!
ولم ينتبه صاحب التصريح إلى أنه وضع الجزائر في موقع ليس أسوأ من اليمن ونيجيريا وتشاد، لكونها مصابة مثلهم، وأفضل من الدول المتقدمة في الشفافية والكشف عن الحقائق، ولكنها في كل الحالات مصابة بداء الكوليرا.
وأول ما خطر ببالي عند قراءة هذا التصريح هو، أنني تذكرت من قال في مناسبة أخرى نحن أفضل من كلّ الدول العربية!! وتذكرت آخر يقول أيام محنة التسعينيات -رداً على الصحافة التي كانت تعلن عن مئات الآلاف من القتلى-: لا لا لا ليس مئات الآلاف وإنمّا عشرات الآلاف فقد، وكأن عشرات الآلاف ذباب وليسوا بشرا…
وقلت في نفسي لماذا تكون التصريحات في مثل هذه المناسبات بهذا الشكل؟ ما الذي اضطر صاحب التصريح إلى أن يقارن نفسه بالأعلى أو الأدنى من الدول؟ ثم ما الفائدة من أن نقول نحن أفضل أو أسوأ أو مساوين لغيرنا، إذ المهم في الموضوع أننا مصابون ولنا مشاكلنا وكفى والمصيبة واقعة، فكوننا أفضل أو أسوأ أو مساوين لغيرنا، لا يعني أن هذا الداء ليس مرضا أو أن “خيريتنا” من كل العالم العربي تنفي عنا مهازلنا أو أن قتل عشرات الآلاف فقط يعفينا من الأزمة التي هي واقع، أو أن ما هو واقع أمر عادي لا نلام عليه على تقصيرنا في جانب أو جوانب من الحياة.
تمنيت لو أنّ صاحب التصريح اكتفى بالتصريح بالقول غزانا داء الكوليرا، وها هي أسبابه وها هي طرق الوقاية منه، وترك الأمور الأخرى لأهلها، في البحث عن الأسباب الفعلية ومن المتسبب فيها، وكيفية التعامل مع الموضوع على أرض الواقع، لا سيما وأنَّ صاحب التصريح ليس سياسياً محترفاً، ولا ممن يبدو عليهم “صناعة التخياط والتخلاط”.
على أنّ التصريح بهذا الشكل، من طبيعته أنه يأخذ أبعاداً ومناحي أخرى، لها طابعها السياسي، الذي يسعى إلى تبرئة كل متسبب محتمل من المسؤولين السياسيين والإداريين؛ لأنّ مفاد هذا القول أنّ ما وقع طبيعي جدا، ولا غرابة في ذلك؛ بل إنّ من شجاعتنا وصدقنا مع الشعب أن نخبره بما هو كائن، وكأننا بذلك لا نخاف مساءلة الشعب لنا؛ لأننا غير مقصرين في شيء حتى نخاف!!
وعندما نكون بهذا المستوى من الصدق والوفاء مع شعبنا، أليس من العار أن نقارن الجزائر باليمن التي هي في حرب أهلية طاحنة، أو بنيجيريا المبتلاة بواقع طبيعي لا تحسد عليه أو بتشاد التي ليست بعيدة عن هذه وتلك.
ثم هل يوجد حقيقة من بين الدول المتقدمة من يستطيع أن يخفي شيئا عن شعبه، إلا ما كان من الأمور السريعة جدا، التي تظهر وتختفي فجأة، أما الأمور المكشوفة والتي لها علاقة مباشرة بالمواطن مثل الأمراض وحركة الأسواق والتفاعل السياسي المباشر، فكل ذلك إذا خفي عن الشعب لفترة ما، فإنه لا يخفى عن الرقابة الإعلامية التي هي بالمرصاد لكل من يتلاعب بالمجتمع. وإذا كان لدولة من الدول العظمى شيء تخفيه عن شعوبها فإنه لن يكون في الأمور التي تقع في البلاد. وكل ما له علاقة مباشرة بالمواطن لا يغامر المسؤول بإخفائه عن الشعب.
لكن يبدو أنَّ نخبنا العلمية والإدارية والسياسية مصابة بداء “التعاطف مع المسؤولين”، بقطع النَّظر عن مستوى مسؤوليتهم في الموضوع، فيجنحون إلى تبرير ما لا يبرر بالحق وبالباطل، وكأن المطلوب منهم هو هذا… أو أنهم يتلقون الأوامر بعدم التهويل حفاظا على الاستقرار الشعبي، فيسرعون إلى التهوين من خطورة الموضوع. وفرق بين عدم التهويل في الأمر وبين التهوين من خطورته.
إن المرض –وكل مرض- لا يستهان به، وخاصة عندما يكون من الأمراض المعدية، أو من الأمراض التي نسيها العالم، ومن ثم ينبغي على كلّ المسؤولين من العلماء والإداريين والسياسيين أن يتحملوا مسؤولياتهم كاملة في التعامل مع الظاهرة، ومسؤولياتهم ليست في تقاذف التهم في هذا الاتجاه أو ذاك، وإنما النظر في المرض لذاته، قبل كل شيء، ثم إذا كانت هناك مسؤوليات فالجهات القضائية والتنفيذية تحرك آلياتها فيما يخدم القطاع ومصالح الشعب..
أما أن نتفاعل مع الموضوع بهذا الشكل “أن هذا المرض ليس في الجزائر وحدها” فأمر غريب..
ثم لنسلم جدلا ونقبل أن هذا المرض موجود أيضا في بلد أو بلدان أخرى!! ماذا بعد؟
يبدو أن نخبنا مرشحة للقيام بالمهام القذرة، أكثر من شعورها بالواجب تجاه الشعب في كل ما يتعلق بالشأن العام.