اتجاهات

 

       يبدو أن دائرة الصراع بين الغرب والشرق قد ضاقت بما فيه الكفاية، وقد وصلت فعلا إلى محيط جبل «ﺁرمجيدون» الذي جعلت منه خرافات وأساطير التلموذ والتوراة حدثا، وأي حدث، إنه يؤرخ لنهاية العالم بعد حرب مدمرة بين اليهود والمسلمين تنتهي بظهور المسيح الدجال ليحكم العالم لمدة أربعين سنة.

معركة «ﺁرمجيدون» هذه تناولتها هوليود في أفلام عديدة، والفكرة يؤمن بها كثير من المسحيين الأمريكيين الصهاينة وخاصة الإنجيليون المعمدانيون الذين يبلغ تعدادهم أكثر من سبعين مليون نسمة، وهؤلاء فعلا بدأوا منذ أكثر من سنتين يحجون إلى فلسطين المحتلة ويدخلون إلى المسجد الأقصى الذي يسمونه جبل الهيكل مع المستوطنين اليهود تحت الحراسة المشددة للجنود الصهاينة وهم يتفرجون على المسلمين من أهل البلاد يمنعون من دخوله والصلاة فيه، هذا أحسن تعبير عن ذهنيات وسلوكات هؤلاء النصارى الصهاينة العنصريين الذين انتخبوا السيد “ترمب”.

من الصليبية إلى الصهيونية: 

لقد كان الدين الإسلامي السمح سببا لنشر الأنوار بخطاب العقل والحكمة والمنطق السليم في معالجة كل هموم وقضايا الإنسان أينما وجد على ظهر الأرض عكس كل الأديان التي سبقته لما تعرضت له من تحوير وتحريف من قبل معتنقيها من اليهود والنصارى الذين شكلوا فيما بعد شبه اتفاق ديني لاهوتي باعتماد الكثير من الكنائس والمذاهب المسيحية في أوربا وأمريكا نصوص العهد القديم كالتوراة وغيرها ضمن كتبهم المقدسة وأناجيلهم المختلفة، وأصبحوا يشكلون مع اليهود ثقافة وفكراً موحداً ضد الإسلام والمسلمين، فرغم المعاملة المميزة التي لقيها اليهود والنصارى من قبل الحكام والأمراء المسلمين في كل حواضر العالم الإسلامي وخاصة في الأندلس، إلا أن ذلك لم يشفع لهم بعد سقوط غرناطة وطرد العرب والمسلمين من شبه جزيرة إيبيريا من تعاونهم في الزحف على بلدان العالم العربي والإسلامي في سلسلة الحروب الصليبية المتتالية التي مازالت تتواصل إلى اليوم مع تغيير بسيط في العنوان والتسمية فقط وتسليم قيادة هذه الحروب إلى الصهيونية العالمية منذ تأسيس هذه الحركة عام 1997، حيث وضعت نصب أعينها هذه المنطقة من العالم وركزت كل جهود قواها الإمبريالية الكبرى لإخضاعها والسيطرة عليها بكل الوسائل وجعلها بمثابة مستعمرة كبرى تنشر فيها فكرها وعقيدتها التي بدأت فعلا تؤتي أكلها حاليا في كثير من بلدانها وأوساط نخبها.

من الزعامة الأوربية إلى الأمريكية:

       لقد كانت أغلب الدول الأوربية الغربية بعد طرد العرب من إسبانيا دولا استعمارية، إلا أن أقواها وأكبرها هما بريطانيا العظمى وفرنسا اللتان كانت لهما شدة العداوة والحقد الدفين ضد الخلافة الإسلامية عامة ومنطقة الشام وفلسطين بصفة أخص لكونها تحتضن المسجد الأقصى ومدينة القدس التي عرفت ميلاد السيد المسيح عليه السلام، ولكون هذه المنطقة بالذات عرفت أشنع هزيمة لجيوشها في الحروب الصليبية.

المؤكد أن ملوك أوروبا الذين بادروا بالحروب الصليبية لم يكونوا ليذعنوا لأوامر الكنيسة لولا تفكيرهم العميق في الجدوى الاقتصادية وأهمية المنطقة من الناحية الإستراتيجية ولقد كانت فعلا ولا تزال هذه الأهمية، بل أصبحت أكثر من ذي قبل بعد شق قناة السويس واكتشاف البترول والغاز إكسير حياة الحضارة المعاصرة.

الخلافات السياسية والإيديولوجية العميقة بين الدولتين البريطانية والفرنسية وشدة المنافسة بينهما على مناطق النفوذ والمستعمرات جعلتهما تتفقان في النهاية على اقتسام هذه المناطق بالتراضي، بل وأصبحتا تمارسان معا تنسيقاً أمنياً واستخبارتيا كلما تعلق الأمر بالشعور ولو بمجرد هاجس عن خطر محدق بمخططاتهما وتدابيرهما لتحقيق إنجاز أو هدف استراتيجي، وهذا ما حدث حينما تفاجأتا ببروز قوة جديدة في روسيا تختلف معهما جذريا بتبنيها لفكر سياسي واقتصادي جديد هو الفكر الماركسي الشيوعي الذي يتناقض مع عقيدتهم وفلسفتهم الرأسمالية الإمبريالية. ولم تمض فترة عقدين من الزمن على بروز هذه القوة حتى ظهرت في وسط أوروبا نفسها قوة شبيهة لهما ولكنها لها طموحات كبيرة في مقارعتهما ومنافستها في الحصول على مستعمرات لها في ما تبقى في إفريقيا، بل أرادت هذه القوة المتمثلة في ألمانيا النازية فرض سيطرتها الكاملة على كل أوروبا فقامت باكتساح كل من بولونيا وبلجيكا وفرنسا وبدأت الهجومات على بريطانيا العظمى، لقد كان ذلك الاشتباك الأول الذي لم يكن يحسب له حساب من طرف الدولتين الاستعماريتين، وخاصة وأن النظام النازي في خضم سعيه للانتصار في هذه الحرب قد تحالف مع الدولة التركية الفتية التي خلفت الخلافة العثمانية التي كانت هي أيضا حليفة لألمانيا في الحرب العالمية الأولى 1914/1918، لم تستمر الحرب العالمية الثانية 1939/1945 إلا ست سنوات ثم وضعت أوزارها بانتصار الحلفاء على دول المحور، يعني انتصار بريطانيا وفرنسا بدعم من أمريكا، القوة الجديدة على ألمانيا واليابان التي دمرت بالسلاح النووي الأمريكي.

الجدير بالذكر أن التقاطع بين ألمانيا وفرنسا وبريطانيا هو الذي أدى إلى الاشتباك الكارثي مثلما كان التقاطع بين تركيا العثمانية والدولتين السالفتي الذكر من العوامل المساعدة على الاشتباك الذي سبقه في الحرب العالمية الأولى وكلا الاشتباكين قامت بهما فرنسا وبريطانيا ثم أمريكا تمهيداً لفرض سيطرتهما على منطقة الشرق الأوسط وزرع كيان دولة إسرائيل المحتلة لأرض فلسطين.

الاشتباك الأخير:

       إن الخطأ الاستراتيجي القاتل الذي ارتكبته ألمانيا النازية هو ذلك الهجوم المباغت على أراضي جمهوريات الاتحاد السوفياتي عام 1942 والذي كان السبب المباشر في الهزائم المنكرة لجيوشها، بحيث سرع في عملية توسيع التحالف بين كل القوى المحاربة للألمان على كل الجبهات وخاصة الشرقية والغربية، لكن هذا التحالف الكبير سرعان ما تحول بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى تقاطع مصالح مرة أخرى بين المعسكر الشرقي الممثل في الاتحاد السوفياتي والغربي الممثل في الولايات المتحدة الأمريكية التي أخذت زمام المبادرة من بين أيدي الفرنسيين والبريطانيين لتقود لوحدها المعسكر الرأسمالي الامبريالي.

هذا الاشتباك بدأ بالحرب الباردة وتخللته اشتباكات ثانوية كما أرادوها وصلت ذروتها في قضية كوبا عام 1958 ولكنها سرعان ما اتفق الطرفان على التهدئة والاتفاق بالتراضي على ترك النظام الجديد في كوبا وشأنه مع حصاره اقتصاديا وسياسيا للضغط عليه.

سلسلة معارك وحروب صغيرة محدودة في الشرق الأوسط بدأت بالهجوم الثلاثي على مصر عام 1956 ثم الحرب الإسرائيلية العربية عام 1967 وبعدها حرب أكتوبر 1973 استطاعت بها الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا فرض الاستسلام على جمهورية مصر العربية لتكون بداية لانهيار كل الجبهة العربية للمقاومة للوصول في النهاية إلى تدمير كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا وإعلان أمريكا أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل.

 

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com