الوزير الأسبق الدكتور نور الدين الخادمي في حوار مع البصائر / أجرى الحوار عبد القادر قلاتي
البصائر: تعتبر تونس من البلاد العربية التي حمل فيها المشروع النهضوي لواء التجديد والتحديث ، وكان في الكثير من تعاملاته وتفاصيله متوازنا فيما يطرحه من قيم وأفكار مهمة، لكن الأمر الآن يختلف مع ظهور تيار الحداثة العربية، الذي حوّل مسار هذا المشروع نحو صيغ وأفكار ومفردات لا تنتمي إلى أساس المشروع الأول، كيف تقرؤون هذا التحول الخطير الذي أفضى إلى واقع ينادي به التيار العلماني؟
الخادمي: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الكريم، شكرا لكم على هذا اللقاء لجريدة البصائر الجزائرية، وتحية للقائمين عليها ولجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بالنسبة لسؤالكم يمكن أن نبينه بعنصرين: العنصر الأول عنصر ما يتعلق بالإصلاح والتحديث في تونس بمؤسساتها العلمية والتي لها علاقة بهذا الخصوص، هذا المشروع الإصلاحي الإحيائي المتجدد هو مشروع قائم ومستمر ومتجدد بناء على طبيعة هذه المؤسسات، وأيضا طبيعة الشعب التونسي، وطبيعة تونس في جغرافيتها وتواصلها مع الشرق والغرب، ولكن هذا المشروع الانفتاحي الزيتوني توقف إلى حد كبير مع إغلاق جامع الزيتونة وإنهاء التعليم الزيتوني التقليدي بُعَيد الاستقلال، والعمل على إبعاد المنظومة الإسلامية التشريعية والعلمية الأكاديمية وعندئذ توقف غالى حد كبير هذا المشروع التجديدي، لكن مع ذلك بقيت ملامح هذا المشروع على المستوى الشخصي وعلى مستوى بعض النصوص، وبعض المواقف هنا وهناك، لكن الفكرة المهمة لهذا المشروع تمثلت فيما ذكرت لك، وأيضا العنصر الثاني يتعلق بمشروع تحديثي خالص عرفت به الزيتونة يتمثل في الهوية والنص والدستور والدولة، وأخطر ما وقع في هذا هو المشروعات التي تستهدف الأسرة والتي تستهدف التراث الإسلامي في مجال الثابت والمستقر والديني والأكاديمي، وأغلب هذه الدعاوى تمثلت في دعاوى انفلاتية خارج إطار النّص الشرعي وخارج اللغة العربية وخارج إطار المؤسسة العلمائية.الزيتونية وخارج إطار المذهب المالكي وخارج والانفتاح على المذاهب الأخرى وخارج إطار الدستور وخارج إطار الرأي العام في تونس، وهذه الدعاوى التحديثية التي تتم خارج هذه المجال الداخلي، كلها، طبعاً أدت إلى معارضة شعبية وكذلك إلى حركة تجديدية أخرى مقابلة لهذه الدعاوى التي تؤمن بالتجديد لكن داخل الإطار الشرعي، تؤمن بالانفتاح لكن داخل المؤسسة الجمهورية، تؤمن بالتحديث لكن داخل الدولة التونسية وداخل الدستور التونسي بما يحقق السيادة الوطنية وبما يحترم الهوية العامة والرأي العام.
البصائر: يعني يمكن أن نقول هناك مشروعان متوازيان يحملان فكرة التحديث، مشروع أصيل مرتبط بأصالة هذه البلاد وانتمائها الحضاري، ومشروع دخيل يحمل روافد من مشاريع أخرى خارجية، ومن ثم تقاسم المشروعان قضية التحديث، التي ينشدها كل عربي ومسلم منذ عصر النهضة..
الخادمي: الحق أن المشروع الإصلاحي الزيتوني التونسي هو مشروع لا يريد أن يتأسس على الاستقطاب الأيديولوجي، وعلى الالتفاف في الهوية وفي التراث وفي الحداثة وفي الديمقراطية وفي الحرية لا نريد هذا، إنما نريد مشروعا إصلاحيا وطنيا يدعى إليه جميع التونسيين في إطار دولة وطنية وفي إطار المؤسسة العلمائية، وفي إطار تكامل معرفي، وأيضا في فضاء مغاربي وفي فضاء الأمة الإسلامية والعالم العربي الإسلامي؛ لأن تونس هي دولة مستقلة وذات سيادة لها خصوصيات ثقافية ولها مؤسسات علمية عريقة كالزيتونة، ولها خبراء وعلماء في كل التخصصات والمجالات، ولكن مع ذلك لابد من الانفتاح على الفضاء المغاربي والفضاء الإفريقي الأوروبي والفضاء الإسلامي العربي، ولذلك المشروع الإصلاحي هذا لا يريد أن يدخل في متاهة الاستقطاب الأيديولوجي والحديث على أساس الهوية؛ لأن هذا يؤدي إلى الانقسام ولا يحقق فائدة لكن بعض الناس وبعض النخبة لا يريدون هذه المقاربة الوطنية التي فيها التكامل المعرفي بين علم الاجتماع وعلم الشريعة مثلا، وفيها أيضا الوفاق الفكري والثقافي الذي ينطلق من المشترك الثقافي المعرفي، ينطلق من المشترك التونسي وفيه بعض الناس لا يريدون هذا فلهم قطيعة مع التراث، لهم قطيعة مع الهوية، لهم قطيعة مع اللغة العربية لهم قطيعة مع المنتوج الإسلامي والموروث الإسلامي ولكن هؤلاء لا يمثلون أطرافا كثيرة وليسوا معبرين عن هوية الشعب التونسي، بل نجدهم على المستوى البحثي الأكاديمي وعلى المستوى الإعلامي لكن الذي نؤكده ونطمح إليه هو مشروع تحديثي وطني تونسي ينطلق من معرفة إسلامية ينطلق من السيادة الوطنية ينطلق أيضا من الاشتراك المعرفي، كذلك ينطلق من المقاربة الوطنية الجامعة التي فيها الثراء وفيها الاحتواء وفيها احترام الهوية وفيها الوظيفة بالمعرفة وفيها التقدم بالمعرفة، لا أن نظل في نزعات أيديولوجية تؤخر وتعطل وتورث الجدل العقيم وتورث التأخر في التقنية في التربية وفي الإعلام، هذا ما نؤكده هنا، ونحن لدينا قدرة متطورة الآن في تحقيق هذه المقاربة التونسية التحديثية الإصلاحية لكن من الداخل، فما المقصود بالداخل؟ يعني الداخل الوطني الداخل الدستوري داخل الدولة يعني داخل اللغة العربية، وطبعاً لما نقول اللغة العربية ليس معنى ذلك أن لا ننفتح على اللغات الأخرى، وليس معنى ذلك أن لا نتواصل مع العلوم مع الفنون مع المنتجات بأنواعها، وهذا المنهج هو الذي يحقق قدرا عاليا من النجاح والثمرة.
البصائر: مسألة التقرير الذي قدمته لجنة الحريات والمساواة التي شكلها رئيس الجمهورية، هذا المشروع الذي جاء إلى تونس اليوم، وأصبح حديث الشارع وحديث النخب وحديث المجتمع التونسي، كيف جاء هذا التقرير؟ ما هي الخلفيات الفكرية والإيديولوجية والسياسية؟ لماذا رئيس الدولة اختار هذه العصبة على وجه بالتحديد؟
الخادمي: أولاً هذا التقرير هو أثر لمبادرة أعلن عنها رئيس الجمهورية 13 أوت 2017 ثم أثر اللجنة التي شكلت بعد هذه المبادرة وأدى هذا إلى تقرير اللجنة والذي جاء في 235 صفحة تضمن كلاما كثيرا في أمرين اثنين في المساواة والحريات الفردية وتضمن مغالطات كثيرة وتناقضات عدة وأخطاء علمية بالجملة وبالتفصيل في علم الاجتماع وفي علم الشريعة وفي علم القانون، وهو تقرير وضع على عجل خلال أقل من سنة وهو تقرير معقد ومركب فيه الأحوال الشخصية والأسرة وفيه أمور أخرى تتعلق بالحرية، وفيه أمور أخرى قلنا وضع على عجل، وهذه العجلة في هذا التقرير أدت إلى إشكاليات علمية ومنهجية، أيضا اللجنة التي وضعت هذا التقرير ليست متخصصة، ليس فيها متخصصون في المجالات المرتبطة بالتقرير، ليس فيه متخصصون في علوم الشريعة، وصلب التقرير في علوم الشريعة فيه كثير فيه الأخطاء في القرآن في السنة والأحاديث والآيات وأحكام إلى غير ذلك، ليس فيه علماء الاجتماع وليس في اللجنة متخصصون في القانون الدستوري وفيه المئات من المتخصصين في القانون الدستوري وفي علم الاجتماع وفي علم الشريعة في تونس، هذه اللجنة لم تستشر أول مؤسسة في العلوم الدينية وهي جامعة الزيتونة وهي جامعة في التعليم العالي تابعة للدولة فيها كليات لها تاريخ طويل فيها ماجستير والدكتوراه، لم تستشر رسميا هذه الجامعة وقد أصدرت الجامعة بيانا أمضى عليه السيد رئيس الجامعة يبين فيه أن الجامعة لا علاقة لها بهذا التقرير ولم تستشر هذه الجامعة بشأن هذا التقرير ولم تستشر الجامعة بطرق رسمية ولا برؤية صحيحة للمناقشة والمشاركة كما أصدر أساتذة الجامعة بيانا واضحا صريحا أعلنوا فيه رفضهم لهذا التقرير وأنه تقرير كارثي على مستوى الأسرة التونسية وعلى مستوى الأمن القومي، وعلى مستوى السيادة الوطنية، وعلى مستوى مؤسسة الدستور، إذن هذا التقرير جاء مصادما للشعب التونسي، جاء من لجنة غير متخصصة، ليست فيه استشارات لا لمؤسسات الدولة ولا لمراكز البحوث، هذا التقرير لو مُرِّر إلى مجلس النواب سيؤدي إلى جدال عميق وكبير، وإلى خلافات وربما انقسامات، هذا التقرير لو كتب له التطبيق وتحول إلى تشريع وإلى قانون؛ سيؤدي إلى نزاع داخل الأسرة والى هدم الأسرة، والى تفكيك المجتمع، ويؤدي إلى ضرب وحدة مؤسسات الدولة، وأصبح الناس يتحدثون عن قضاء مدني وقضاء غير مدني، وأيضا عن أحوال شخصية مدنية وأحوال شخصية غير مدنية وإلى غير ذلك.
ونتحدث اليوم كذلك عن هذا التقرير، ما هي خلفياته؟ الأصل أن تسأل هذه اللجنة، نحن تعاملنا مع هذا التقرير بحسب ما جاء فيه من كلام ومواقف وصياغات ومفاهيم وتصورات ومقترحات، لم نفتش في نوايا أعضاء اللجنة ولم نستهدف أعضاء اللجنة، وليس لنا مشكل مع أعضاء اللجنة في أشخاصهم وذواتهم ولا مع هذه الهيئة وغيرها، لا مشكلة لدينا مع رئاسة الجمهورية ولا مع هذه اللجنة، ولا مع الأشخاص، مشكلتنا مع المضامين ومع الأفكار ومع المفاهيم، هذا التقرير فيه مفاهيم يراد إقامتها في مجتمع لا يقبلها ولا يوافق عليها، هي مبعث على تفرقته، ونحن اليوم في حاجة إلى الوحدة الوطنية وإلى سلام أهلي واجتماعي، وإلى معالجة الأولويات، هذا التقرير جاء قاصداً الأولويات العاجلة للشعب التونسي على مستوى التنمية، الصحة، التشغيل، وعلى مستوى القفة، غلاء المعيشة، مستوى الدينار ومستوى الاستثمار ومستوى تأمين المصاريف ومستوى المؤسسات والمشروعات الكبرى، وكذا المديونية، هذه قضايا اجتماعية اقتصادية وسياسية خانقة لأزمة حادة كان الأصل أن نلتفت إليها جميعاً من أجل تجاوزها وتقليل أثارها وسلبياتها، لكننا نحشر في مناقشات عميقة وشغلنا بمشروع كان الأولى بدأ هذا المشروع بمؤسسات وقواعد صحيحة وبمنطق حوار وبرغبة في المشاركة، هذا التقرير بدأ بخصومه وبفرض أمر الواقع واستقواء بالدولة لفرض خيار على الشعب التونسي ولفرض نمط مخالف للشعب التونسي يعني هذا التقرير لو اطلعت عليه ستجده مخالفا مخالفة صريحة لما جاء في القرآن والسنة، وفيه مخالفة صريحة لآيات المواريث، لآيات الزواج، القوام، النفقة، المهر، والعدة، يعني فيه مخالفة أيضا دستورية شرعية قانونية؛ لأن هذا التقرير جاء على خلاف الفصل الأول من دستور تونس الذي يقول بأن الإسلام دين الدولة، جاء خلاف الفصول الأخرى في دستور 2014، الذي يقوم على الأحكام الإسلامية والذي يقول بتنشئة الناشئة والأطفال على الهوية العربية الإسلامية واللغة العربية، أيضا يقول أن الأسرة أو الخلية على الدولة أن تحميها، المقاصد الشرعية والمقدسات الإسلامية وأيضا على وحدة الشعب وعلى المواطنة، فالمواطنة وإرادة الشعب ومواد القانون هذه هي الأركان الثلاثة في الدولة المدنية، إرادة الشعب هنا صدمت وإن كتب للشعب التونسي أن يقوم باستفتاء حول هذا التقرير، سيرفض مباشرة هذا التقرير، وهذا يعبر عن إرادة الشعب، التي تعد ركنا من أركان الدولة المدنية، طبعا، مثل ما قلنا نحن تعاملنا مع التقرير ليس مع عقليات وأشخاص وليس مع خلفيات التي هي موضع تحليلات أخرى نفسية وقضائية وحكومية، لكن تعاملنا مع هذا التقرير ومع هذا الكم الهائل من الأوراق والمضامين والأفكار والمخرجات المنتظرة، ولذلك حكمنا على هذا التقرير أنه مأزق شديد للدولة التونسية وللمؤسسة التشريعية وللشعب التونسي.
البصائر: لماذا تم اختيار هذه الأسماء بالضبط؟
أنا الذي أقوله لماذا لم يُسَمَّ أشخاص آخرون ممن لهم علاقة بهذه المبادرة، من مؤسسات رسمية، من علماء الاجتماع من القضاة والمحامين وأيضا الخبراء، وبالتالي تسأل السيد الرئيس لماذا لم تختر من يكون جديراً بالمبادرة، فيها علوم كثيرة وفيها أبعاد كثيرة وفيها نواظم أي روابط ناظمة لمشروع معقد بمثل هذا المشروع، كان الأجدر أن يضمن هذه النواظم والروابط في المعرفة وفي المؤسسة وفي التسويق وفي الخبرة وفي الاستقراء وفي الرصد والإحصاء، وأن يكون هناك فريق كبير في العدد عميق في التخصص ومتكامل في المعرفة، وأن يأخذ وقته، ثم يأخذ المشاورة العامة والشعبية وفق سياقات ذلك، وبحسب ذلك من أجل أن يجعل هذا المشروع بضمانة وبنجاح لا أن يصدم هذا المشروع بالإعاقة والتعطل كما صدم الشعب…