في رحاب الشريعة

مجالس السيرة النبوية/ خير الدين هني

دراسات تحليلية لأهم أحداث السيرة النبوية

الحكمة من تفضيل بلاد العرب برسالة السماء (5)

 

6- ولولا ارتباط الحركة النبوية في تسلسلها الزمني، ضمن وحدة جغرافية متجاورة الحدود، ما كان للبشر في تلك الفترات الصعبة أن يتم بينهم الاتصال، ثمّ التواصل عبر منظومة واسعة من الشرائع السماوية التي كانت تدعوهم إلى الهدى والرشاد؛ ولا يمكن لذلك التواصل أن يحقق أهدافه الشرعية لو بعث نبي بأقصى الشرق، ونبي آخر في أقصى الغرب مثلا؛ فالاتصال بين الناس في هذه الحال يكاد يكون منعدما، لبعد المسافات وصعوبة المواصلات، فتضيع من جراء ذلك البعد المنفعة من الوحدة الدينية في نسقها المتكامل المتدرج؛ كما لا يتحقق من ذلك البعد في المسافات الجغرافية، العبرة والموعظة للمستكبرين المترفين من البشر الذين من عاداتهم، رفض مبادئ الشرائع السماوية؛ لكونها تتعارض مع مصالحهم ونزواتهم. فيؤثِّرون على عوام الناس ويبعدونهم عن الهدى والرشد؛ كما أن تباعد أماكن ظهور الحركة النبوية يؤدي حتما إلى عدم الانسجام والتوافق، بين مبادئ حلقات الحركة النبوية التي اقتضت حكمة الله تعالى أن تندمج نهائيا؛ ضمن رسالة خاتمة بواسطة التسلسل التشريعي المتدرج.

7- وإذا كانت الطبيعة البشرية، قد فطرت على النزوع إلى الاستعلاء والاستكبار، والنفور من الحقائق التي لا تقع تحت حسها وإدراكها؛ فإن بعد المسافة الجغرافية سيزيد من عدم الانتفاع من حقائق الشرائع الدينية ومعتقداتها، فتنعدم القدوة والتجربة الإيمانية التي بها يزيد الاستعداد الفطري لقبول التعاليم الدينية الجديدة، والاستجابة إلى هديها الراشد.

8- وإذا كان التواصل بين القارات الثلاث للعالم القديم (آسيا وإفريقيا وأوروبا)، يتم من طريق محور المشرق العربي، باعتباره منطقة متوسطة جغرافيا بين هذه القارات، في حركة تجارية بواسطة البحر الأحمر غربا، والمحيط الهندي جنوبا، وخليج فارس شرقًا، والبحر الأبيض المتوسط شمالا، وإذا كانت بلاد العرب نقطة الالتقاء التجاري وتحويل السلع والبضائع من قارة إلى أخرى؛ فيصير من الطبيعي أن تنال هذا التفضيل الإلهي، وتصبح تربة صالحة لأن تحتضن الرسالة الخاتمة الموجهة للناس كافة؛ لما لها من أهمية بالغة في تاريخ العصور القديمة.

وبما أن الاحتكاك بين الأجناس البشرية كان يتم في هذه المنطقة، فطبيعي أن تظهر النبوة في هذه البلاد، حتّى يتيسر تبليغ دين الله إلى الناس كافة، ولقد رأينا كيف انتشرت النصرانية في أوروبا، لأن الإمبراطور (قسطنطين الأول) اعتنقها، ثمّ نشرها في جميع أنحاء مملكته، ولولا وجود علاقة تجارية وسياسية بين أوروبا الممثلة في الإمبراطورية الرومانية، وبلاد العرب، ما كان للنصرانية أن تعرف هذا الازدهار والانتشار.

9- والحركة النبوية لم تظهر إلا عند الشعوب البسيطة في تفكيرها ومعاشها ونظمها؛ لأن البساطة هي الأقرب إلى طبيعة الخلق، مما يجعل الناس يستجيبون لداعي الله بسهولة ويسر؛ لأن الشعوب المتحضرة قد فسدت طبائعهم، بسبب الترف وتعقيد الحياة بالنظريات الفلسفية، والنظم السياسية والقانونية؛ مما يجعل الإنسان يميل إلى عبادة الذات وتقديس عقله ومواهبه؛ مثلما كان عليه حال اليونان والرومان والفراعنة.

وحالنا اليوم شاهد صدق على هذا الفرض؛ إذ أصبح الإنسان المعاصر يعبد عقله، إذ يرى أنه مكنه من قهر قساوة الطبيعة بمخترعاته وإبداعاته، فألّه نفسه من طريق تقديس ذاته وإطرائها والثناء عليها والإعجاب بعظمة ما أصبح قادرا على فعله..! مما جعله يرفض عقائد الدين في أي صورة كانت؛ لأنه اعتبرها تراثا رجعيا ابتدعه في مراحل ضعفه، حينما كان يبحث عن قوى غيبية لتفسير الظواهر الطبيعية من حوله؛ لأنه عجز على تفسيرها بنفسه، فاخترع فكرة الإله القادر على كل شيء والمدبر لكل شيء، ومن ثمّ جاءته الفكرة الدينية في تفاصيلها العقدية والتشريعية تدريجيا- حسب زعمهم-.

ولعل قصة فرعون مصر وحاشيته هي آية فرضنا هذا، إذ استكبر وطغى في الأرض واستعلى استعلاء كبيرا؛ حينما بُعث إليه موسى عليه السلام، فأبى الإيمان بدينه لأنه ألف حياة الترف التي كان يعيشها، فجعلته يؤلّه نفسه ويقدسها؛ ويستعبد الناس ويعذبهم ويقهرهم، ولم  يستجب لموسى عليه السلام، إلا المستضعفون والبسطاء من الناس الذين ضاقت بـهم سبل الحياة الفرعونية المتجبرة؛ فآمنوا به خوفا على أنفسهم من فرعون وطمعا في النجاة من قهره وعذابه!.

10- وإذا كانت الحركة النبوية تناسبها الأجواء الجغرافية، والفكرية والثقافية الملائمة، فإن منطقة العرب بحكم تمركزها في وسط العالم القديم الذي كان مركز إشعاع حضاري، ونقطة التقاء تجاري، وموضع تبادل ثقافي، فإنها تصبح هي المكان الأنسب لبعث الرسل على فترات من الزمن، كي تكتمل المسيرة النبوية عند نقطة النهاية التي لابد منها؛ لذلك كانت النبوة الخاتمة هي الحلقة النهائية في السلسلة النبوية، ومن أجل تلك الأسباب بعثت في بلاد العرب.

11- ولما كان الإسلام هو آخر حلقة في سلسلة الحركة النبوية، اختزلت فيه جميع الشرائع السابقة؛ لأن تلك الشرائع كانت ترتبط بديانات قومية؛ أما الإسلام فهو دين عالمي حكم به القرآن الكريم{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].

لذلك امتازت شريعته بالبساطة والسهولة واليسر في التكاليف، لـقوله تعالى:{ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]. ولقوله صلى الله عليه وسلم:”يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا“، وكان الهدف من التخفيف هو مراعاة خصوصية المرحلة التي بعث فيها، والوظيفة التي يضطلع بها في هذه الحياة، وكذلك الديمومة التي سيستمر عليها، إذ ستستغرق جميع ما بقي من حياة البشر على وجه الأرض.

وقد اختار له سبحانه وتعالى منطقة الحجاز، لتكون المحطة النهاية في سلسلة الحركة النبوية للأسباب التالية:

أ – كي يتم التكامل بين أول حلقة في سلسلة النبوة التي جاء بها آد عليه السلام، إذ نزل وعاش ومات ودفن بمنطقة الحجاز، وبين آخر حلقة في السلسلة التي هي الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

ب- حتّى يكون البيت الذي بناه آدم بأمر من الله تعالى، هو المثابة التي ترتبط به قلوب الملايير من المسلمين في جميع بلدان العالم على مرّ الزمن.

جـ- لأنه ليس من الحكمة، أن تبقى أمم من البشر المؤمنين برسالة التوحيد، بدون معلم أرضي تتوجه إليه قلوبهم، في حج أو عمرة أو صلاة، فتزداد صلتهم بخالقهم؛ لأن ذلك المعلم الذي تتوحّد عنده الأجسام والقلوب والمشاعر، سيزيد من عمق الإيمان الروحي، وارتباطه بالله سبحانه، فتتطهّر القلوب، وتُزكى النفوس، فتبتعد عن غيّها وغرورها واستكبارها.

د- والطبيعة البشرية درجت على أنّ ألفها واستئناسها للمعالم الأرضية، يزيد من الارتباط بهـا أكـثر، حينما تكون تلك المعالم تـحمل معانـي دينيــة مقدّسة؛ فتنعكس على عقولهم ومشاعرهم وسلوكياتهم.

ثم من جهة أخرى، إذا علمنا بأن مناسك الحج والعمرة، تؤدى بشروط وكيفيات طوال السنة بالتقويم القمري؛ لا تكون إلا في الأجواء الحارة، فلو كان الطقس باردا مثلما عليه الحال في أوروبا أو آسيا، أو معتدلا كما في إفريقيا أو الشام، لاستحال تأدية شعائر الحج والعمرة بتلك الشروط المقيدة في الإحرام، بإزارين خفيفين لمدة طويلة.

وهكذا نصل في النهاية إلى أن الله تعالى فضّل العرب بالنبوة الخاتمة، بسبب مشيئته التي جعلت انحدار النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من شجرة النبوة من جهة أولى؛ ولأن الظاهرة النبوية في مجملها ظهرت في بلاد العرب على فترات من التاريخ من جهة ثانية، سواء جاء بالنبوة أنبياء ومرسلون عرب كهود وصالح وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام، أم جاء بها أنبياء ومرسلون من بني إسرائيل كداود وسليمان وموسى وعيسى عليهم السلام؛ لأن هؤلاء الأنبياء والمرسلين يلتقون عند أصل واحد انحدروا منه جميعا،  فضلا عن الأسباب التي تقدم شرحها في ثنايا هذا الموضوع.

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com