العشر الأول من ذي الحجة من الأيام المعلومات إلى الأركان والواجبات/ محمد مكركب
العشر الأول من شهر ذي الحجة هي أيام الحج الأكبر، لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، إنها أيام أقدس الشعائر الدينية والمناسك التعبدية، هي أيام الطواف بالبيت العتيق، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، وذكر الله بالمشعر الحرام، ورمي الجمرات، ونحر الهدي، والحلق بمنى يوم العيد امتثالا لأمر الله الواحد القهار، في وسط تلك الجموع الغفيرة والإفاضات الكبيرة الملبية “الرب الغفار العزيز الجبار”.
إنها إفاضات من عرفات إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى، ومن منى إلى المسجد الحرام، في أعظم المواكب البشرية، في الطاعة والإجلال لرب البرية، تحت هتافات التكبير والتهليل والتلبية:[لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك].
فمن هنا اكتسبت هذه الأيامُ ذلك الفضلَ العظيم، واكتسب العاملون فيها ذلك المقامَ الكريم، فكان من شرف فضلها ورفعة مقامها أن غير الحجاج يصومون اليوم منها، فالواقفون بعرفات يذكرون ويستغفرون مَالِكَ الْمُلك ذَا الجلاَلِ والإكرام، وباقي المسلمين في أوطانهم يقفون بقلوبهم معبرين بالصيام.
فهذا من فضل ذي الحجة شهر الله الحرام في هذه الأيام، ويكفي هذه العشر الأولى أنها أيام الحج الأكبر، وفيها يومُ عرفة يومُ المؤتمر العالمي الأكبر، وفيها ما فيها من المناسك والبشائر، وفيها من تعظيم الشعائر، ففيها الوقوف الرسمي للذكر صباح العيد بالمشعر الحرام، في تلك الوقفة المخصوصة لذكر الله تعالى. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:﴿فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾[البقرة:198].
ويجيب الفتاح العليم عن الحكمة والمقاصد فقال:﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾[الحج:28/29].
والأيام المعلومات هي العشر الأول، وقد يدخل معها يوم العيد، أو حتى الأيام المعدودات التي هي أيام التشريق، غير أن أيام التشريق هي التي سماها الله أياما معدودات في قوله تعالى:﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى﴾ فكان المقصود بالأيام المعدودات هنا هي أيام الرمي، اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة. والله تعالى أعلم. قال القرطبي رحمه الله:(وقال أبو حنيفة والشافعي: الأيام المعلومات العشر من أول يوم من ذي الحجة، وآخرها يوم النحر) [الجامع.3/2] وفي البخاري:(وقال ابن عباس:﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ ( أيام العشر، ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ﴾ هي: أيام التشريق).
وفي الحديث الشريف عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟) أي:(في هذه العشر الأول من ذي الحجة) قالوا: ولا الجهاد؟ قال:(وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)[البخاري.969] ومن خير العمل في هذه الأيام أضحية العيد.
ألا أيها الناس، فمن أراد أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره: فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَن النبِي صلى الله عليه وسلم قال:( إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ) [مسلم.1977] وهذا بالنسبة لغير الحاج، لأن الحجاج يهدون الهدي، ولا يضحون الأضاحي.
قال الله تعالى:﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الحج:36].
﴿والبُدْنَ﴾ واحدتها بدنة. وهذا الاسم خاص بالإبل، النوق والجمال. وقوله تعالى:﴿جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ﴾ أي: من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى لكم أيها المؤمنون.﴿لَكُمْ فِيها خَيْرٌ﴾ لكم منافع دينية ودنيوية. ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها﴾ بأن تقولوا عند ذبحها باسم الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك. وكلمة:﴿صَوافَّ﴾ قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن. فالهدي بمنى، والأضاحي في سائر الأوطان من بين أهم الشعائر التي لها فضل كبير، ولكن يقتضي ذلك النية والإخلاص، وحسن الأنعام التي تهدى ويضحى بها. قال الله تعالى:﴿لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج:37].
عن البراء قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أربع من الأضاحي. فَقَالَ:( أَرْبَعٌ لَا يَجُزْنَ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرَةُ الَّتِي لَا تُنْقِي) [النسائي.4369] ومعنى هذا فالمطلوب من الْمُهْدِي والْمُضَحِّي أن يختار من الأنعام السليمة الصحيحة السمينة مما يتقرب به إلى الله.
وعلمتم أن حكم الأضحية سنة مؤكدة، على المستطيع، ويكون ذبح الأضحية بعد صلاة العيد، ويجوز الاشتراك في الهدي والأضاحي في الإبل والبقر، من واحد إلى سبعة، ويجوز ذبح الأضاحي يوم العيد، ويوم الحادي عشر والثاني عشر، والإبل تنحر، والبقر والغنم تذبح. كما يجوز للمرأة أن تذبح، وتقسم الأضحية إلى ثلاثة أقسام: الثلث للأكل، والثلث يُهْدَى، والثلث صدقة. ويجوز الادخار من لحوم الأضاحي ويجوز نقلها من قرية لأخرى.
ثم أيها الناس لا تنسوا فضل صيام يوم عرفة، إن صيامَ يومِ عرفةَ لغير الحاج فيه فضلٌ كبيرٌ، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ الله عنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْه وَسَلم سُئِل عن صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: (ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ) قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ:( يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ) قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ:( يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ) [مسلم.1162].
وفضل صيام يوم عرفة (اليوم التاسع من ذي الحجة) لغير الحاج فضل عظيم، أنه:( يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ) أما الحجاج بعرفة لا يصومون.
أيها الناس، أعظم أيام ذي الحجة يومُ عرفةَ ويومُ النحر: فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضِي الله عنه، قال: خطَبَنَا النَّبِي -صلى الله علَيهِ وَسَلم- يَوْمَ النحرِ، قال:( أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟)، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ( أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟) قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:( أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟)، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ:( أَلَيْسَ ذُو الحَجَّةِ؟) قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:( أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟) قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:( أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الحَرَامِ؟) قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:( فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تلْقون رَبَّكُمْ، أَلا هَلْ بَلغْتُ؟) قالوا: نعم، قال:( اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)[البخاري.1741].
أيها الناس، من الأعمال الجليلة أيضا في العشر الأول من ذي الحجة، خطب العلم والفقه والتعليم والإرشاد: خطبة يوم السابع، بالمسجد الحرام، ويوم عرفة للواقفين، وفي منى للحجاج بعد التحلل الأول، وغيرها. وفي بلدان المسلمين، منها الخطبة الرسمية التي تلقى بعد صلاة العيد، وكذا الخطب التي قبل انطلاق قوافل الحجاج، وبعد رجوع الحجاج. وفي كل هذه الخطب التعليمية يُذَكَّرُ المسلمون فيها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. السابقة الذكر، فيما يخص.(حرمة الدماء، والأموال، والأعراض)﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾[النساء:29].
هل تدبرتم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:( فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) هذا شهر ذو الحجة من الأشهر الحرم. أشهر السلم والسلام. فماذا يقال للمسلمين الذين لا يزالون يتقاتلون بينهم لأغراض سياسية أو مذهبية عقدية وهمية، أو لأسباب طائفية. أما تدبرتم أيها الناس، تلك الحكمة العظيمة في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، كيف أن الله فَدَى إسماعيل بذِبْح عظيم، لتُوقَفَ إراقةُ دماءِ البشرِ، بِإهْرَاقِ دماءِ الْهَدْيِ والضحايا. ألا أيها المتخاصمون والمتقاطعون والمتقاتلون كُفُّوا أيديكم عن العنف والعداء، ومُدُّوها للصفح والمصافحة والبناء، وافتحوا القلوب بإخلاص وَحُبٍّ ووفاء. هذه أيام السلم والسلام فليجعل إخوانُنا في اليمن والشام والعراق وليبيا وفلسطين وفي العالم أجمعين، فلنجعل هذا العيد برزخا بين زمن الخصومات والأحقاد، وننطلق في زمن جديد هو زمن المحبة والمودة رَحْمَةً بالعباد، واستجابةً لرب العباد:﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.