منظومتنا التربوية إلى أين؟/ التهامي مجوري
المنظومة التربوية تتعرض منذ أكثر من ربع قرن لعملية تغيير ممنهجة، بأبعاد مغايرة للآفاق الوطنية المنطلقة من عالم القيم الناظمة للمجتمع الجزائري، والحجج التي يذيعها هذا المشروع التغييري، أن هذه المساعي يفرضها ويتطلبها تطور المجتمع، والتحولات الدولية التي نحن جزء منها.
والمتتبع للموضوع يلاحظ أن هذا المبرر غير صحيح لسببين على الأقل:
- السبب الأول هو أن تغيُّرات المجتمع لم تبلغ حد الاضطرار لتغيير منظومة تربوية تعليمية ومناهجها، وإنما يتطلب تقييمها وتدارك النقائص فيها، وليس بتجاوزها كلية، واعتبارها جيلا لا علاقة له بهذا الجيل –الجيل الثاني-.
- أن التحولات الدولية لا تجبر المنظومات الوطنية على تكييفها بما يعارض مصالحها الوطنية وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية، إلا لمن أراد ذلك، والمجتمع الجزائري غير مضطر لقبول كل وافد عليه.
وإنما الواقع هو أن هناك محاولة لتحويل النظام السياسي، من نظام مسير إداريا إلى نظام لبرالي حر..، ولكن هذه المحاولة لا تزال تدار بمنطق التسيير الإداري، وفي الجُزَيْءِ المفتوح للنقاش كشَّرت الصراعات الأيديولوجية على أنيابها، فتحولت المنظومة برمتها إلى محل صراع أيديولوجي تفرض فكرة القوة والنفوذ على قوة الفكرة منطقها…، واستمر الأمر منذ سنة 1992 يوم أعلن عن أن المدرسة الجزائرية منكوبة وإلى اليوم، وأبرز ما في الموضوع هو التكييف المؤدلج لكل شيء في التربية والتعليم، وحاجة المجتمع الجزائري ومتطلبات التنمية لا وجود لها في جوهر المنظومة.
فلا أظن أن التعليم بلغة الأم –العامية- من أولويات التعليم أو مما يفرضه تحول المجتمع، ولا أظن التركيز على اللغة الفرنسية ببعدها الثقافي “la langue culture” من حاجات المجتمع الجزائري أو من ضرورات التعليم، ولا أظن أن إلغاء التعليم الديني كتخصص في مراحله الأولى من موجبات المجتمع المتحضر، ولا أظن أن الرموز في الرياضيات بالحروف اللاتينية أو بالحروف العربية تشكل خطرا على التعليم نفيا أو إثباتا.
ولكن القوم لاحظوا “أن المدرسة الجزائرية خرجت لنا إرهابيين أكثر مما خرجت لنا تنويريين، فأرادوا أن ينقذوها من هذا الواقع”. الحاصل إلى حد الآن هو أن منطق القوة والسلطة في الموضوع هو الساري والمفروض، وليس صلاحية الفكرة أو وقتها أو جدواها، على جميع الأصعدة.
- فمن الناحية القانونية ألغي النظام التعليمي الجزائري المؤسس بأمرية رئاسية سنة 1976، بمراسيم وأوامر واجتهادات كلها دون الأمر الرئاسي.
- ومن الناحية المنهجية، كان لابد من القيام بعملية تقييم لتجربة المدرسة الجزائرية ثم العمل على استدراك الفوائت والنقائص، بعيدا عن أي ارتجال أو اجتهاد خارج التجربة مهما كان بها من نقائص، من غير إلغاء لأي جهد بذل في القطاع .
- من ناحية الخيارات السياسية والأيديولوجية كان ينبغي أن تستمر الخيارات والتغييرات باستصحاب الاتجاه الثوري الاستقلالي، حتى ونحن في عز الاستقلال والحرية؛ لأن حقيقة الاستعمار لم تصفَّ، ولا تزال الجزائر إلى اليوم تحتاج إلى هذا النَّفَس الثوري الاستقلالي؛ لأن الاستقلال الحقيقي لا يتحقق بمجرد الانتصار العسكري وتحقيق بعض المكاسب السياسية، وإنما بالعمل المتواصل والمحيَّن وفق مراحل حاجات المجتمع وموجبات تحسينه، والمجتمع الدولي أيضا يرفض الضعاف وإذا كانوا كذلك فإنه لا يعبأ بهم وإنما يفرض عليهم قيمه ويتجاوزهم.
لا شك أن السلطة أحيانا تكون في حرج من بعض الأمور التي يعمل العالم على إلغائها أو تغييرها أو تكييفها..مثلما هو الحال مع كل ما يتعلق بالدين الإسلامي، قيما وأحكاما ومعتقدات وخيارات اجتماعية، وهذا لا يسع الوطني إلا أن يتفهمه، ولكن ليس من حق السلطة إذا كانت مضطرة لبعض المواقف أن تحجر على المجتمع المدني وتمنعه من التمسك والدفاع عن خصوصيات المجتمع..وليس من حق الأقليات النافذة في مفاصل الإدارة الجزائرية أن تفرض على المجتمع قناعاتها المضادة لخيارات الاتجاه الوطني العريض، وليس من حق أي توجه جزئي إغراق الكليات فيه.
ولذلك نرى أن المجتمع الجزائري كله، بسلطته وأحزابه ومجتمعه المدني أن يقف الموقف المبدئي السليم مما يدور في أروقة هذا القطاع الحساس، سواء في جوانبه الشكلية القانونية، أو في جانبه العلمي البيداغوجي التربوي، وأمامنا الكثير من الإشكالات التي ينبغي أن يحسم فيها بشكل جدي ومسؤول؛ لأن الموضوع ليس موضوع وزير أو وزيرة أو حتى حكومة، وإنما هو موضوع مجتمع، يُمَسُّ فيه كل جزائري.
وهذه بعض الأمور التي تحتاج إلى تعميق البحث فيها.
ففكرة الجيل الثاني على أي أساس وضع المصطلح؟ هل هو تقسيم لأجيال الاستقلال؟ أم هو تقسيم لمراحل التجربة الوطنية؟ أم هو تقسيم مؤدلج؟
واستبعاد التعليم الديني في مراحل تعليمية وتقليصه في مراحل أخرى بحجة أن الدين قضية شخصية وتمدين التربية والتعليم، هل هو خيار وطني أم هو ارتجال ورأي رآه شخص أو فئة لا تعد الدين من مكونات الشخصية الوطنية؟
السياسة اللغوية في البلاد وما يقرر في هذا القطاع بالذات، على أي أساس مبني؟ على أساس تنموي..وهنا تكون اللغة الإنجليزية صاحبة الأولوية، أم على أساس وطني مستقل وهنا تكون الأولوية للغة العربية، أم على أساس بحث عن هوية مفقودة نبحث عنها تكون الأمازيغية هي الأصل.
أنا لا أشك أن الحركة الوطنية الجزائرية والدولة الجزائرية بعد استعادة السيادة الوطنية حسمت الموضوع منذ عقود، ولكن “التخلاط المؤدلج” يعيد أحيانا النقاشات إلى مربعها الأول بحيث يجعل المسلمات موضوعات للجدل والنقاش العقيم.