تقرير لجنة الحريات في تونس عندما تقدم الايديولوجيا على التنمية وبناء الدولة/ عبد القادر قلاتي
في كلّ تحول سياسيّ وثقافي تشهده بلادنا العربية والاسلامية، نتأكد من حقيقة لا تخطؤها عين المتابع الحصيف لواقعنا الفكري والديني، وهي أنَّ دعاة تيار الحداثة العربية، بكلّ فصائله لا يملكون مشروعاً حقيقياً لأوطانهم، فكلّ نضالهم الفكري والسياسي -منذ ظهور حركة العلمنة في العالم الإسلامي – هو حالة من التشويش على المشروع الحقيقي والأصيل في الأمة، فجلُّ مقارباتهم الفكرية تتوجه مباشرة لضرب المسلمات من حقائق الدين والمعتقد، لأنَّهم يرتكزون على رؤية واحدة وهي أنّ الدين هو المسؤول الأول على التخلف الحضاري الذي تعانيه هذه الأوطان، ولذا نجد أنّ أغلب كتابات النُّخب المتعلمنة تتناول المسائل الدينية وقضايا الدين عموماً، وتنشغل بالشأن الديني أكثر من غيرها، لهذه القناعة الفكرية الخاطئة – أي أنَّ الدين مسؤول عن التخلف الحضاري- التي جنت على الأمة، والتيار العلماني بطبعه متطرف في الأحكام والقناعات، لا يقبل المختلف ولا يحاوره، بل يتحالف مع أنظمة الاستبداد ضد هذا المختلف بالرغم من أنه يزعم أنَّه ضد الاستبداد والشمولية.
في الأسابيع القليلة الماضية قدمت “لجنة الحريات الفردية والمساواة “لتي شكّلها الرئيس التونسي قايد السبسي، تقريرها الخطير، والذي جاء يحمل الكثير من المطالب المخالفة لأهم الأحكام الشرعية الثابتة في القرآن والسنة النبوية، مثل الغاء عقوبة اللواط والمساحقة والزنا، والمسائل المتعلقة بالميراث والنفقة والعدة والنَّسب، كما استبعد التقرير في صياغته الكثير من المصطلحات الشرعية المعروفة في الثقافة الاسلامية للشعب التونسي مثل: المسلمون، الموانع الشرعية، الفحش، المحرمات، داعياً –أي التقرير- إلى ما أسماه بالمنهج التشاركي في بناء المجتمع التونسي الحديث، ومطالباً –أيضا- بمراجعة قضايا الحرية في الفكر الاسلامي وإعادة النَّظر فيها، هذا الفكر الذي يتحمل -بحسب ما ورد في التقرير- مسؤولية “انتكاسة دور الانسان الخليفة منذ عصور الانحطاط والتضحية به لصالح الجماعة والأمة ولصالح نظام الحكم”. ومن هنا تظهر فكرة الحرية الفردية في الفكر الغربي المعاصر، وأعضاء لجنة تقرير الحريات في تونس، وغيرهم من المتعلمنة العرب، ليسوا سوى مقلدة للفكر الغربي القائم على تجاوز المنطق الديني لاعتبارات تاريخية تخص الغرب وجدله مع الدين ورجاله، وهو واقع مختلف تماماً عن واقعنا في العالم العربي والإسلامي، لكن هذه الثلة القميئة مصرَّة على تزوير الواقع ومحكاة الأوهام التي ترسبت عميقاً في البنية الفكرية والنفسية لهم، فالواقع أنه مشروع جماعة ايديولوجية مؤدلجة مريضة، مازلت تحلم بالتحديث القسري للمجتمع والدولة
اللافت في أعضاء هذه اللجنة، هو اللون الايدلوجي الواحد لكلّ أعضائها إذا استثنينا الصحفى صلاح الدين الجورشي، الذي كان اسلامياً خالصاً، ثمّ تحول إلى ما يسمي باليسار الإسلامي، أما البقية من أعضاء هذه اللجنة فأغلبهم من اليسار الاستئصالي، الذي كان مع بن علي، ووقف الى جانبه في حملته على الإسلاميين، ثمّ يقف اليوم مع الثورة المضادة في الخفاء، ويعلن في الظاهر مساندته للثورة التونسية، التي لم يكن له دور فيها اطلاقاً.
والسؤال الذي يمكن أن يوجه للنّظام التونسي في نسخته الحالية -حيث تمكنت الثورة المضادة من ارجاع الكثير من أعوان بن علي إلى مفاصل الدولة والمؤسسات الفاعلة- هو، هل بناء الاقتصاد والتنمية في الدولة والمجتمع أولى، أم دفع البلاد إلى من حالة من الانشطار المجتمعي، الذي قد يؤدي –لا قدر الله- إلى انقسام المجتمع والشعب الواحد؟ وإلاّ ماذا يعني أن تقوم جماعة من النّاس -لا تشكل إلاّ نسبة قليلة في المجتمع – بفرض نمطها وسلوكها المعيشي في الحياة، على الجميع دون النّظر في المكون الثقافي والديني لبقية السكان بدعوى الحداثة وتجاوز الماضي؟ أليس المطلوب من الدولة التعاون مع الجميع للبحث عن صيغ جديدة وفاعلة في بناء دولة حديثة وقوية، بعد أن قام الشعب التونسي بثورة ضدّ نظام استبدادي غاشم كنظام بن علي؟، ألم يبقى من مطالب الشعب التونسي إلاّ حقه في تحرير الزنا واللواط وارتكاب الموبقات، ومخالفة كلّ الأحكام الدينية، بعد أن ذاق طمع الرفاهية وحياة البذخ؟، أليست نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر في تونس تجاوزت 30 بالمئة، ونسبة البطالة أكثر 15 بالمئة، وأن الفساد أصبح يشكل عنواناً كبيراً للحياة السياسية والاجتماعية، فقد جاءت تونس -بحسب منظمة الشفافية الدولية- في المرتبة 74 دولياً، والأولى في الدول المغاربية؟ أليست هذا المشاكل أولى بالبحث والمعالجة؟، بدل الجدل العقيم حول ضرورة تجاوز الموروث الديني، وأنه السبب الرئيس فيما لحقنا من تخلف وركود حضاري، ونحن نرى تجارب سياسية ناجحة تظهر هنا وهناك في العالم، ولم تعقها تعاليم الأديان وتقاليد المجتمع، بل كان الدين رافداً مهماً لهذه التجارب.
سننشر في العدد القادم تقريرا صحفياً انجزت أهمه في تونس في زيارة قمت بها لهذا البلد الشقيق، مُدَعَماً بحواراتٍ مع شخصيات علمية وسياسية تونسية، وقفت بقوة وصلابة ضد هذا المشروع المتطرف المعادي لثقافة ودين الشعب التونسي. والله المستعان.