دراسات تحليلية لأهم أحداث السيرة النبوية الحكمة من تفضيل بلاد العرب برسالة السماء (4)/ خير الدين هني
وبهذه التغيرات الجيولوجية والمناخية الكبرى التي ستكون كقوادم لزلزلة عظيمة سوف تؤدي إلى النهاية المحتومة للإنسان، على غرار ما حدث للمخلوقات التي سبقته في الوجود على الأرض بنص القرآن الكريم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى حينما يريد قيامة أي جنس من خلقه لحكمة متوخاة، فإنه يزلزل الأرض بتغيرات جيولوجية كبرى من طريق ارتطام نيازك عملاقة بالأرض، فتنقرض على إثرها الحياة البرية، على نحو ما وقع للديناصورات والمخلوقات الأخرى قبل 65 مليون سنة، ثمّ يعيد الخلق في صور أخرى، كآية على عظيم قدرته وسلطانه، وهذا استنتاج من قوله تعالى:{.. إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30 ]. أي خليفة على الأرض لمن كان قبله ممن أفسدوا فيها…فيحكم بشريعة الله وأمره.
هذه الفرضيات مقدمة للقيامة الكبرى المذكورة في القرآن الكريم، في سورة الزلزلة والتكوير وغيرهما مما هو وارد في القرآن الكريم بكثرة؛ يصور أهوال القيامة بتدمير شامل للأرض، وحسب فرضيات علماء الفلك، فإن الشمس ستفقد مخزونها من غازات الهيدروجين الذي بتفاعل نواه الهائلة في حركة اندماجية عظيمة، ينتج نوى الهوليوم، وحين تفقد غازاتها تتضخم أكثر من مليون مرة، وتصاب بالعتامة الشديدة فيسود الظلام الكرة الأرضية، ويختل نظام الجاذبية الذي يحكم مجموعتها، فتنسف الشمس الكواكب القريبة من مدارها، والأرض قريبة من الشمس، فتصاب بالزلزلة الشديدة التي تخرج فيها أثقالها من شدة الصدمة، وتصير جبالها مهلهلة هشة رخوة غير متماسكة. والحال أنها هي حزام الأرض الذي يثقل كتلتها ويثبتها ويمنعها من الخروج عن مدارها.
وهذا ما صوره القرآن الكريم، تصويرا دقيقا في قوله تعالى:{ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعراج: 8/9]. المهل كما قال ابن مسعود ما أذيب من الرصاص والنحاس والفضة، وهو الأكثر ترجيحا، لأن هذا التفسير يطابق ما نراه من صهارة البراكين تطابقا كاملا حين تخرج المادة المنصهرة كتل حممها. خلافا لمن قالوا: هو دُرْدِي الزيت (ما يركد في أسفل كل مائع كالأدهان والفضة) كابن عباس وعطاء ومجاهد وابن جبير. والعهن هي الصوف المنفوش، وربما السماء المقصودة هنا هي المجموعة الشمسية التي تربطها قوانين جاذبية واحدة..والله أعلم.
وحينما نعود إلى مسألة تفضيل العرب عن سواهم بالنبوة الخاتمة؛ إنما هو من باب العدالة الإلهية التي جعلت تفضيل خلقه عن بعضهم البعض أمرا داخلا في أمره وعلمه وحكمته، لقوله تعالى:{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}[النساء:32]، ومعنى الآية هنا يؤخذ بعمومه وليس بخصوصه. والعموم يدل على أن البشر منهم من فُضّل بشرف النبوة والرسالة، ومنهم من فُضّل بقدرات الذكاء الخارقة، والمواهب النادرة والتفوق والنبوغ، فنالوا السبق إلى الإبداع الفكري والعلمي والتكنولوجي، ومنهم من فضل بطبائع وسجايا أخلاقية عاليـة، ومنهم من فُـضِّل بأوطان جميلة جغرافيتها، غزيرة مياهها، طيّبة تربتها، معتدل مناخها…إلخ.
والعرب فُضِّلوا بالنبوّة الخاتمة بسبب توسط بلادهم للعالم القديم، فهم يقعون بين قارات ثلاث، آسيا وإفريقيا وأوروبا، من طريق البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر والمحيط الهندي، وخليج فارس. وبسبب هذا التوسط أنزل الله تعالى آدم في بلاد العرب، وتوفي بها، ودفن بأسفل جبل أبي قبيس بمكة، طبقا لما جاء (في الدُّرِّ المنثور)، عن ابن عباس، فقد روي عنه:” أن آدم وحواء وإبليس والحيّة أنزلوا إلى أرض يقال لها (دجنا)، بين مكة والطائف، وقيل هبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة وورد عن ابن عباس أيضا أنّه نزل بالهند”([1])، وحتى الرواية التي ذهبت إلى أن آدم “أُنْزل بأرض الهند بجزيرة سرنديب، (سيلان) على جبل يقال له:(بَوْذ)، وحواء أنزلت بجدّة، فجاء يطلبها حتّى أتى جمعا، وهو مزدلفة، فازدلفت إليه حواء… وبعد طواف في أرض العرب توفي بها، ودفن عند جبل أبي قبيس بمكة”، (الدكتور شوقي أبو خليل، أطلس القرآن ، ص12). وحسب المشهور من الأخبار أن آدم، هو الذي بنى البيت بأمر من الله تعالى، ثم قام بالحج بعد أن علمه جبريل عليه السلام، مناسكه، وقد غُمر البيت من أثر الطوفان؛ ثمّ أعاد بناءها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، في القصة الشهيرة، وعلى هذا يمكن أن نستنتج:
1- أنّ عملية نزول آدم عليه السلام، في بلاد العرب وموته بها، وبناءه البيت، وأداءه مناسك الحج، هي بداية القصة في تفضيل بلاد العرب بالنبوة الخاتمة؛ إذ هناك علاقة وثيقة بين أول حلقه في سلسلة النبوة وآخرها، ضمن تسلسل زمني كان معروفا لدى ثقافة شعوب هذه المنطقة قبل النبوة المحمدية؛ فلما ظهر الإسلام تأكدت هذه الحقائق التي كانت متداولة بين الناس.
2- وحسب المشهور من الروايات فإن بلاد العرب كانت المنشأ الأول للإنسانية، لكون آدم عليه السلام، نشأ بها وترك ذريته في أرجائها، وبعد الطوفان الشهير تفرق أبناء نوح في الأرض، وهو ما يقرّره التاريخ العام، حسب التقسيم المشهور الذي ذهب إليه العلماء، من أن البشر ينتمون إلى (سام، وحام، ويافث)، أبناء نوح عليه السلام، (أما ابنه الرابع (كنعان) فكفر بدينه وهو الذي{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء}. وأن العرب واليهود ينحدرون من سام، والآريين من يافث، والأحباش والسودان والسند والهند من حام، ونوح بعث في جنوب العراق، حول موقع مدينة الكوفة حاليا، وجبل الجودي الذي رست عليه السفينة، جبل قبالة جزيرة ابن عمر، عند ملتقى الحدود السورية التركية اليوم، على الضفة الشرقية لنهر دِجلة، ويرى جبل الجودي بوضوح من بلدة (عين دِيوَار) السورية.( د/ شوقي أبو خليل، أطلس القرآن الكريم).
3- وإذا كانت المنطقة العربية هي البقعة الجغرافية المتوسطة بين قارات العالم القديم؛ بجغرافية متميزة في شكلها (شبه الجزيرة)، زائد بلاد العراق والشام التي استوطنتها موجات عربية خرجت من اليمن نازحة إليهما، فانتسبت إلى العرب بشريا وجغرافيا وحضاريا؛ فطبيعي أن تكون من الوجهة المنطقية المنشأ الأول للجنس البشري، والمهد الأول للحركة النبوية؛ مثلما كانت المهد الأول لظهور الحضارة الإنسانية…ولقد جاء في أطلس القرآن للدكتور شوقي أبي خليل، طبعة دار الفكر دمشق .ص 27 “…ونقلت وكالات الأنباء المرئية (في الفضائيات)، والمسموعة يوم الأربعاء 13/9/2000م، خبرا مفاده أنه تم العثور على مدن كاملة مغمورة في قاع البحر الأسود، وقال العلماء المكتشفون: إنها تثبت الطوفان كما ورد في الكتب المقدسة، وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية (لندن)، الخبر يوم الخميس 14/9/2000م، ضمن برنامجها (جولة العالم هذا الصباح)، بعد أن بثّت الفضائيات صور الخبر مساء اليوم السابق”.
فهذه النتائج الهامة التي دلت عليها الحفريات، تعطينا الدليل على صدق ما ذهبنا إليه، من فرض سبب تفضيل العرب بالنبوة؛ إذ أن الطوفان غمر كثيرا من بقاع العالم القديم الذي كان آهلا بالسكان، خلافا لما ذهب إليه البعض من أن الطوفان اقتصر على العراق فقط؛ ومنطقة مكة المكرمة أقرب إلى جنوب العراق من منطقة البحر الأسود، والمراد من ذلك أن نتائج الحفريات تؤكد لنا بما لا مجال فيه للشك، بأن خبر نسب بناء البيت لآدم خبر صحيح؛ لأن بقية هذا الخبر تؤكّد أن البيت غمرته مياه الطوفان، وهو خبر مشهور في الرواية الإسلامية.
4- وبما أن الأديان السماوية السابقة، جاءت بشرائع مختلفة، تماشيا مع خصوصية كل أمة، وما كان يحاط بها من ظروف اجتماعية ودينية وطبيعية وثقافية، فليس من المفيد أن تبقى هذه الشرائع بلا نهاية من غير أن يؤدي ذلك إلى تجميعها في شريعة واحدة، من طريق النسخ الذي تفرضه حاجيات الناس؛ لأن الديانات السماوية جاءت متصلة فيما بينها بوحدة العقيدة والغاية مع اختلافها في الشرائع، وكانت عبر مراحل وجودها منتظمة في نسق ديني متناسق ومتكامل ينسخ الآخر منه الأول، حسبما تستدعيه الظروف والحالة النفسية للمجتمعات.
لذلك كان لابد – في نهاية المطاف – أن يتحقق تكامل نهائي في شكل إدماجي للحركة النبوية ضمن رسالة خاتمة؛ في سياق وحدة زمنية تستمر مع وجود الإنسان إلى يوم القيامة.
5- وسيستمر ذلك الإدماج في نسق متكامل إلى آخر مرحلة من حياة الإنسان، وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، حينما قال:”بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“، والمعنى من ذلك أن الحركة النبوية في مسارها التاريخي، كانت تظهر في حلقات ضمن سلسلة واحدة، ربطتها وحدة جغرافية ومبدئية وغائية، انتظمت في نسق متكامل حتّى انتهت إلى آخر حلقة من حلقاتها، وهي الرسالة المحمدية الخاتمة، وقد وقع ذلك بحكم المشيئة العليا والضرورة التي اقتضتهما حكمة الله تعالى في تسيير حياة البشر؛ فكانت الرسالة الإسلامية هي آخر لبنة في بناء هيكل الحركة النبوية، فظهرت في بلاد العرب في منطقة الحجاز، لتكتمل نهاية القصة الدينية على يد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والتي كان آدم عليه السلام، قد رسم معالمها الأولى عند بنائه البيت، والقيام بشعائر الحج مثلما بيناه سابقا.