حقــوق الإنســان الرئيسة في المنظور الإسلامي -03/ د .إبراهيم نويري
– الحق في الأمن والاطمئنان: الإسلام هو صاحب الفضل الأول في تأسيس هذا الحق، لأنه في أصله وليدُ الضماناتِ التي وضعها هذا المنهجُ لكفالة حقّ الاعتقاد والرأي، إذ يرى الإسلام أن توفير الأمن والاطمئنان وراحة البال حقٌّ لكلّ إنسان في المجتمع الإسلامي بغضّ النظر عن المعتقد الذي يعتقده أو الدين الذي يدين به، فمن القواعد الثابتة في هذا المنهج أنه “يوصد كل الأبواب أمام نفر من الخلق يستهينون بأقدار الآخرين وحقوقهم خصوصا الحكام الذين قد يدهمون البيوت لتفتيشها أو يعتقلون خصومهم ويقيّدون حركاتهم دون ارتباط بقانون أو رعاية لقضاء، تلك كلها سياسات جائرة تصطدم بما يقرره الإسلام في مجتمعه من تأمين مطلق للفرد، وحس دقيق بحقوقه الشخصية “.
إن النظرة المجردة داخل بيت الإنسان اعتداء على حرمته، وقد أرشد الرسول الكريم أمته ألا تفعل هذا، وحظر على أي امرئ ألاّ يدخل بيتا إلاّ بإذن صاحبه..لأن تعريض المسلم لأي فزع جريمة، وحق الحياة الآمنة من المخاوف والمظالم والتهديدات والمنغصات المختلفة، لابد من إثباته في حياة الجماعة. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :” لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلما“(أبو داود) وعندما يكون التخويف مقرونا بسلاح ما فإن الإثم يتضاعف، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:” لا يُشِرْ أحدُكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعلّ الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار“(البخاري).
فهذا الحق مكفول للجميع في ظل المجتمع الإسلامي الحق. وقد نوّه رسول الإسلام بحلف الفضول الذي عقده أولو الشرف والنبل من عرب الجاهلية وتواصوا فيه بمعاونة المظلوم، والانتصار له من ظالمه…فلا جرم أن اللاجئين إلى دار الإسلام فرارا من أي عنت يلقون من أهل الإسلام الأمان المطلق لذواتهم وأولادهم وأموالهم… يلقون ذلك مبذولا دون عوض مرجو، إنما هي طبيعة الإسلام في إحقاق الحق وإبطال الباطل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك فإن المسيحية أو اليهودية أو أي عقيدة أخرى تستطيع أن تعيش في ظلّ الإسلام -إذا حكم وساد- معيشة طيبة محفوفة بكلّ ضمانات الأمن والاطمئنان وراحة البال.
5– الحق في المساواة والعدل: الحق أن ما ورد في المادتين الأولى والثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إنما هو ضهيٌّ فحسب للأصول المقررة في الإسلام وليس إبداعا أو سبقا انفردت به الحضارة الغربية، بل إن ما تقرر في التعاليم الإسلامية هو النبع والأصل الذي تعرفت إليه الإنسانية ذات فترة من تاريخها أول مرة. إن الإسلام يؤكد بأن البشرية التي تعيش على ظهر الأرض في القارات الخمس هي”أسرة واحدة انبثقت من أصل واحد ينميهم أب واحد وأم واحدة لا مكان بينهم لتفاضل في أساس الخلقة وابتداء الحياة..والتكليف الإلهي يتّجه إليهم جميعا على سواء بوصف أنهم يتوارثون الخصائص النفسية والعقلية الشائعة في جنسهم كله، وأنهم أهلٌ لكل ما كفل الله للإنسانية من كرامة وناط بها من واجب، قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء}[النساء:1] .. ولا نكــران أن البشر يختلفون في لغاتهم وألوانهم من الناحية العامة، لكن هذا الاختلاف لا يؤبه له، ولا يخدش ما تقرر من تساويهم في الحقيقة الإنسانية الأصيلة، إنه يشبه اختلاف ألوان الورود في البستان، أو اختلاف الأزياء التي يرتديها الإنسان، وقد رفض الإسلام رفضا حاسما أن يكون ذلك مثار تفرقة أو سبب انقسام، بل جعله بالنسبة إلى الخالق الكبير آية على إبداعه وإتقانه..وبالنسبة إلى الناس أنفسهم مثار تعارف لا تناكر، وائتلاف لا اختلاف”.
وإذا كانت بعض المذاهب والفلسفات الوضعية تعترف حينا وتتنكر حينا آخر لهذا المبدأ، فمردّ ذلك هيمنة روح المصلحة الآنية المستحكمة في مناهجها ومعاملاتها والرغبة القوية في استقطاب الآخرين وجذبهم لدائرة تلك الهيمنة غير البريئة في منطلقاتها، أما الإسلام فهو على خلاف ذلك تماما، حيث أن مبدأ المساواة الذي اعتنقه المسلمون ومحا من أفهامهم وأقطارهم نظام الطبقات نابع من عقيدة التوحيد ذاتها، وما انبنى على عقيدة التوحيد هذه من عبادات وتعاليم وأحكام ..فقد تعلم المسلمون من أصل دينهم أن الذي تعنو له الوجوه وتسجد في حضرته الأرواح والأجساد وتستجيب لندائه وحكمه الخاصة والعامة هو قيوم السماوات والأرض وحده، وأن البشر قاطبة ينتظمهم سلك العبودية المطلقة لله وحده وأنّ من حاول التطاول فوق هذه العبودية السارية في الأشخاص والأشياء وجب قمعه حتى يستكين في مكانته لا يعدوها “.
ومن المسائل الدالة على عدالة الإسلام ما قرره الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان من كون المسلم يُقتل بالكافر، وقد ردّ الإمام حديث “لا يُقتل مسلم بكافر“(رواه البخاري من حديث علي بن أبي طالب)، ومن مفكري الإسلام المعاصرين نجد أن الشيخ الغزالي قد أيّد الإمام الأعظم في ترجيحه، لكون هذا الحديث -مع صحة سنده- معلول المتن بمخالفته لعموم النص القرآني:{ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة: 45]؛ وإذا كان هذا الفهم يُعدّ سنداً قرآنياً استند إليه أبو حنيفة قديماً، فإن الشيخ الغزالي في عصرنا هذا، يضيف حجة الواقع وما هو أقرب إلى روح العدالة كما تُفهم من مبادئ الإسلام، فيقول:” وعند التأمل نرى الفقه الحنفي أدنى إلى العدالة وإلى مواثيق حقوق الإنسان، وإلى احترام النفس البشرية دون نظر إلى البياض والسواد، أو الحرية والعبودية أو الكفر والإيمان، لو قَتل فيلسوفٌ كانسَ طريقٍ قُتل فيه ! فالنفس بالنفس…وقاعدة التعامل مع مخالفينا في الدين ومشاركينا في المجتمع أن لهم مالنا وعليهم ما علينا…فكيف يُهدر دم قتيلهم؟ !وقد بلغني أن بدوياً قتل مهندساً أمريكياً في إحدى دول الخليج، وقال أهل الحديث لا يجوز القصاص! وشعرتْ الحكومة بالحرج، ولكن تم الخروج من المأزق بقتل المجرم من باب السياسة الشرعية “.
6– الحق في التعلم ورفع المستوى الثقافي: يرى الإسلام بأن الوجود المعنوي للإنسان أهم من وجوده الحسي وأن الجانب المعنوي من وجوده هو ثمرة للتعلّم والتأمل في الكون وتفتيق المدارك العقلية، فالإنسان محتاج إلى أقساط منتظمة من المعرفة حتى يتفتق ذهنه وتتسع مداركه، ويبصر حقيقة ما يحيط به من الأشخاص والأشياء ويعي ما يُطلب منه وما يجب عليه.
ولقد بلغ من أمر التشديد على الحقّ في التعلّم والفهم والمعرفة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، عقب غزوة بدر الكبرى أقرَّ ـــ في مسألة أسرى بدر ــ بكونِ تعليمِ الكتابة لعشرة من أبناء المسلمين سبباً كافياً لإطلاق سراح الأسير. رغم أنه محارب للمسلمين ومناهض للإسلام ودعوته!..ولمكانة العلم في الإسلام لم يعادل شيء منزلة بعض الأركان الجليلة إلاّ التعلّم والإقبال على المعرفة، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:” مَن غدا إلى المسجد لا يُريدُ إلاّ أنْ يتعلّمَ خيراً أو يَعْلَمَهُ كان له كأجرِ حاجٍّ تاماً حِجّتُهُ“( رواه الطبراني برقم 7473). وقال أبو أمامة أيضاً ذُكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم رجلان، أحدهما عالم والآخر عابد، فقال:” فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم“( رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح).
ولقد علّق الشيخ يوسف القرضاوي على سياق هذه الأحاديث النبوية الشريفة فقال:” ومن فضل العلم على العبادة، أن معظم العبادات قاصرة النفع لا تتجاوز صاحبها، فالمصلي والصائم، والحاج والمعتمر والذاكر والمسبّح، يزيد عملُهم من حسناتهم ويرفع من درجاتهم..ولكن المجتمع من ورائهم لا ينال من جراء عبادتهم شيئاً مباشراً، يحقق لهم منفعة أو يدفع عنهم مضرّة، أما العلم فنفعه متعدّ لا يقتصر على صاحبه، بل يتجاوزه إلى غيره من الناس، فالعلم لا يعرف القيود ولا يعترف بالحواجز والسدود”، كما أعلى القرآنُ الكريمُ من شأن العلم والمتعلمين، لأن الإصلاح في الأرض والقيام بواجبات الاستخلاف، لا يتحقق بغير هذا الشرط. قال الله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[الزمر:9] .
ويكفي الإسلام شرفاً ورفعةً أنّ أول كلمة نزلت من كتابه الخالد هي:”اقرأ” التي جاءت بصيغة الأمر، وكأن العلم في هذا الدين ليس فحسب من حقوق الإنسان، بل هو أعظم من ذلك إنه من الحقوق ومن الواجبات العينية والكفائية، إذْ لا يمكن أبداً للحياة أن تكون حياةً بغير العلم وأهل العلم في نظر الإسلام.
نتائج ومقررات:
من المناسب بعد استعراض وبسط معالم الرؤية الإسلامية الأصيلة، لحقوق الإنسان الأساسية، أو قاعدة الحقوق الإنسانية العامة، أن نثبت المقررات والنتائج التالية:
1)- إن الحقوق التي تضمنها البيان العالمي لحقوق الإنسان تُعتبر من أبجديات التعاليم المقررة في الإسلام، وإنْ كانت تلك الحقوق تبدو للغرب أو لجزء من بني البشر جديدةً، فهذا خلل فادح في الوعي بمحفوظات الذاكرة الإنسانية – وهذا على افتراض حسن الظن بالآخر الحضاري – وفي الوقت ذاته فإن هذا الخلل يعكس مدى خطورة جُرم تفريط المسلمين في تضييع الحقيقة ببعدهم عن دينهم وتقاعسهم عن العمل بوصاياه وإبلاغه للناس كافة.
2)- أصالة وتميز المنهج الإسلامي في حفظ حقوق الإنسان، إذ وضع الإسلام آلياتٍ وقواعدَ لحفظ هذه الحقوق، وذلك بخلاف الكثير من المناهج والفلسفات الوضعية التي لم تتجاوز في معظم الحالات مستويات الحديث النظري المجرد وتخوم الشعارات الخاوية أو المحايدة الرجراجة عن قضايا حقوق الإنسان، فالإسلام حين أقرّ مثلا مبدأ حفظ النفس أو حق الحياة فإنه وضع قاعدة تحريم القتل، وما يتبع هذه القاعدة من آليات صيانة الحياة والنفس كالقصاص والدية..وهكذا فعل إزاء كل الحقوق المقررة الأخرى، يُضاف إلى ذلك – وهذه من قسمات تميز المنهج الإسلامي أيضا – أن هذه الحقوق فطرية في الإسلام، أي أنها مقررة في روح طبيعته الإنسانية نفسها، بينما تقررت هذه الحقوق في الحضارة الغربية على إثر سلسلة من الاحتجاجات والثورات الطاحنة، وعقب أنهار من الدماء والأشلاء والدموع !!.
3)- إن حديث الحضارة الغربية عن مبادئ حقوق الإنسان، هو في الحقيقة أثرٌ من آثار الفكر الإسلامي في هذه الحضارة، انتقل إليها عبر وسائط الاتصال والتفاعل التي حدثت في الواقع التاريخي كمراكز العلم ومدائنه المختلفة وجامعات الأندلس وصقلية والاحتكاك بالمسلمين الذي دام قرنين إبان فترة الحروب الصليبية، ودليل ذلك تأخر ظهور الحديث الجاد عن هذه المبادئ والقيم في الغرب إلى ما بعد عصر النهضة في أوروبا، التي لم تخف تأثرها بالمنهج التجريبي والفلسفة العقلانية للحضارة الإسلامية.
4)- إن واجب إعادة تسجيل هذه الحقيقة على شريط الذاكرة الإنسانية، ينبغي أن يتمّ إحياؤه في هذه المرحلة في سياق الوعي بقواعد التدافع الحضاري والزحام الأيديولوجي العولمي، فإنّ إعادة تصدير مبادئ حقوق الإنسان إلينا يبدو كأنه تصدير القطن لمصر! أو إهداء الورود للربيع ذاته! أي أنه مفارقة غريبة عجيبة!!
لذلك ينبغي أن ينصف هواةُ البحث عن الحقيقة المجردة الإسلامَ وتعاليمه السمحة من جاحدي فضله ومنكري أثره في البشرية وما أسداه للوجود من خدمات وجليل الأعمال والذكريات.
5)- إن إعادة إنصاف الحقيقة في هذا المجال، لا تتمّ إلا من خلال تفاعل الفكر الإسلامي الصحيح مع مقاصد الإسلام وواقع الحياة، وتجديد صياغة منظومة استنهاض وبناء العقل المسلم، وما يقتضيه ذلك من جهود على صعيد الإصلاح الثقافي والانبعاث الفكري، وإحياء ثقافة حقوق الإنسان والإنسانية والأحياء جميعاً من خلال عطاء الإسلام وقيمه وتعاليمه.
6)- من الأهمية بمكان أن يجعل الدعاة المسلمون مناسبة الحديث عن حقوق الإنسان فرصةً للدعوة إلى الإسلام نفسه، والتعريف بحقائقه وإنصافه من أخطاء أتباعه أولا، وكذا من جور المنازع الفلسفية والمذاهب الأرضية التي تدعو إلى خيار “الاستقلال عن الله” كبديل عن مبدأ “الاستخلاف عن الله ” تحت مظلة الحديث عن حقوق الإنسان.