أقلام القراء

تأصيل العلوم الإنسانية طريق التخلص من التبعية/ أ.د. عبد الملك بومنجل

 

     تعاني الأمة، في موقفها من العلوم الإنسانية أمرين اثنين، كلاهما سبب في كبوتها وعائق في سبيل نهوضها من جديد: الأولُ إسلامُها أمرَ هذه العلوم إلى المرجعية الغربية، مع أنها أوثق العلوم صلة بالإنسان عقلا وروحا ونفسا ووجدانا وطبعا، وألصقها باعتقاده وتاريخه وهويته ومصيره. والثاني تأخيرُها مرتبة هذه العلوم إلى الدرجة الثانية بعد العلوم المادية، ظنا من القائمين على شؤون الأمة في كثير من البلدان أن تخلفنا ماديٌّ أساسا، وأن حاجتنا هي النهوض بالعلوم الطبيعية والتقنية والتجريبية، بحيث نقدر بفضلها على تطوير الصناعة وتحديث الوسائل ومن ثم تنمية الاقتصاد وتحقيق القفزة التنموية.

في كثير من البلدان العربية يُجمِع الناس خاصتُهم وعامّتُهم، راعوهم ورعيتُّهم، على التقليل من شأن الأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع وكل ما هو من قبيل العلوم الإنسانية، وتتجه أحلامُهم خلال التوجيه الدراسي إلى العلوم الأخرى ذات النزعة العملية لا النظرية، والتجريبية لا التجريدية؛ فترى المتفوقين من الطلبة يختارون من الاختصاصات ما هو من هذا القبيل كالطب والبيطرة والهندسة والإعلام الآلي، وينفرون من العلوم الإنسانية بل يزدرونها. وترى الجهات الوصية على التعليم تشترط المعدلات العليا للانتساب لهذه الاختصاصات العلمية، وتدعُ العلوم الإنسانية للمتوسطين والضعفاء. وهكذا يتواطأ المجتمع كله على تجريد الأمة من سلاحها، وإسلامِها إلى الضعفاء والسفهاء يقودونها بلا حكمة ولا فلسفة، ولا ذكاء ولا همة، ولا بلاغة ولا بصيرة، ولا عمق فكري ولا وعي حضاري. يديرون شؤونها بالارتجال، ويخوضون في قضاياها المصيرية بمنطق الاستهانة والاستسهال، ويختارون لها من الاتجاهات ما جرّت إليه المناسبة، أو رضي به المزاج، أو اتفق مع المصلحة العابرة، دون تفكير ولا تخطيط ولا نظر في المآل !

ولو نظر هؤلاء إلى الأمر نظرة الحكيم المفكر، والبصير المتدبر، لوجدوا أنه لا ثروة أغلى من الثروة البشرية، ولا طاقة أقوى من الطاقة الإنسانية، ولا شيء أولى بالاهتمام وأدعى إلى الرعاية من الإنسان ذاته. فهو الذي يصنع الآلة ويستعملها حيثما يريد، وهو الذي يستكشف الطبيعة ويسخّرها لما يقصد إليه من الخير أو الشر، وهو الذي يبتكر العلوم ويختزن المعارف ليوظفها في طريق الصلاح أو في طريق الفساد.

إن العلوم المادية لا تؤتي ثمارَها إلا على يد إنسان سويٍّ خيّرٍ محبٍ للإنسانية مخلصٍ للأمة راشدٍ سليم العقل مستقيم الخلق. وإن استثمار قوى الإنسان في العلوم المختلفة رهينُ تأسيس وجدان هذا الإنسان وعقله وضميره على قواعد التفكير الموضوعي والتوازن الوجداني والتماسك النفسي والقيم الأخلاقية والجمالية. فإذا لم يكن شيء من ذلك –وهو حتما غير كائن في ظل إهمال العلوم الإنسانية- لن ننتج غير مجتمع خائرِ الهمة، مختلّ التفكير، جامد العقل، فاسد الضمير، سقيم الذوق، فاقدٍ للطموح، عاجزٍ عن الإبداع، مستمرئٍ للتقليد، متقبِّلٍ للعبودية، راضٍ بالهزيمة، مستسلمٍ للتخلف. ولا أظن حالنا بعيدةً عن هذه الحال.

لقد بلغ من إهمالنا للعلوم الإنسانية، وإسلامِنا أمرَها للمرجعية الغربية، أن عجزنا عن أن نخرج للأمة من الفلاسفة المقتدرين، والمفكرين المهندسين لشروط النهضة، وعلماء النفس والاجتماع على طريق الأصالة لا التبعية، والنقاد الأفذاذ والأدباء العباقرة، ما يجاوز أصابع اليدين إن لم أقل اليد الواحدة. وهذا قليل جدا، لا يليق بأمة لها ذخيرة لا تضاهى من وحي سماوي وإرثٍ حضاري.

إن تأصيل العلوم الإنسانية، وإحلالَها منزلةَ الريادة في مراتب العلوم، هما شرطُ النهوض من الكبوة، والسير في طريق التخلص من التبعية. إن على مؤسساتنا التعليمية أن تعيد النظر في مقرراتها التي تزاحم فيها العلومُ والنظرياتُ الوافدة العلومَ الأصيلة الضرورية لبناء القاعدة المعرفية لغة وأدبا ودينا ومنطقا وتاريخا وفكرا، وتشوّش فيها المذاهبُ الفاسدة والنظريات الهزيلة على علومٍ هي من صميم هويتنا وشروط مناعتنا وأسباب قوتنا كاللغة والبلاغة والمنطق والعقيدة وعلوم القرآن والتاريخ الإسلامي ومبادئ التفكير الموضوعي وما إلى ذلك. وإن على أهل الوعي منا أن يوجهوا أبناءهم وأقاربَهم من أهل التفوق والنباهة إلى تخصصات العلوم الإنسانية، عسى أن يُثمر ذلك ظهور نخبة من أهل البيان والحكمة والحصافة وقوة الفكر وعبقرية التخطيط ترسم للأمة طريق نهوضها، وتشحذ العزائم الخائرة بروحٍ تجددها، وتعيد للعربي المسلم ثقتَه في ذاته، وشعوره باستقلاله، وتعلقه بحريته، وإيمانَه بإمكاناته.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com