بين البخاري ومسلم..أو علل المتن والسند(3)/ محمد عبد النبي
أخرج الإمام مسلم (4/ 2149) عن أبي هريرة قال:” أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل..”.
ذكرنا -فيما سبق- أن هذا الحديث أعله أئمة هذا الشأن، وهم ابن معين وابن المديني والبخاري، ووافقهما الكثير من المتأخرين، كابن كثير وابن تيمية وابن القيم، وذكرنا أن العلّة فيه أساسا في السند، وأكّدتها علّة في المتن، حيث يرى الأئمة أن الصحيح فيه الوقف لا الرفع، وأنه من حيث المتن مخالف لما في القرآن و”إجماع السلف” كما ورد في عبارة الإمام الطبري !
و مما ينبغي ذكره أن علم العلل علم دقيق، لا يحسنه إلا أئمة كبار معدودون من المتقدّمين في زمن الرواية، وأنه -لدقّته- يشبه الإلهام والكهانة لمن لا يمارسه، فهو قائم على تراكمٍ في المعرفة والخبرة، يُسلِمان إلى نوع من الحدس، يُخبر صاحبه -لأول الأمر- بأنّ هناك علّة، قد لا يستطيع أن يَكشف عنها إلاّ لاحقا، وقد يبقى الأمر من دون تفسير، ولذلك يأتي كلامهم -في كثير من الأحيان- من غير جزم، من مثل قولهم، ويشبه أن يكون كذا، والأشبه فيه كذا، كما هو موجود في كتب العلل، وفي هذا الحديث قال البخاري:” وقال بعضهم عن أبى هريرة عن كعب، وهو أصح”. وقال ابن المديني:” وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى”.
كما أنّ الإمام مسلما يقرّ لشيخه البخاري بالسبق، فيأتي إليه ويسأله عن عِلّة في حديث ظاهره الصحة، فيخبره، وقد أورد الواقعة الإمام الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث (112-114) وهو يتكلم عن دقة العلل وأجناسها، حيث ساق بسنده إلى أحمد بن حمدون القصار قال:” سمعت مسلم بن الحجاج- وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري- فقبّل بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله..” ثم ساق حديثا في كفارة المجلس بسنده، وسأله:” فما علته؟، قال محمد بن إسماعيل: هذا حديث مليح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول..” !
والسؤال الذي لا مناص من طرحه: هل يتأتّى لعالم معاصر-لم يَعِش في عصر الرواية ولا ما بعدها– أن يُغلِّط أئمة في العلل، من مثل ابن معين وابن المديني والبخاري، ومن رأى رأيهم ممن جاء بعدهم؟ حتى ولو كان منتصرا لإمام آخر لم يَر رأيهم؟
وقد أشار ابن تيمية في رسالته في تفسير سورة الإخلاص (10) إلى بعض ما غلط فيه مسلم، ثم قال:” والبخاري سلم من مثل هذا، فإنه إذا وقع في بعض الروايات غلطٌ ذكر الروايات المحفوظة التي تبين غلط الغالط، فإنه كان أعرف بالحديث وعلله، وأفقه في معانيه من مسلم ونحوه”.
وقلنا من قبل بأن البخاري رحمه الله قد نصّ على علّة هذا الحديث تحديدا في التاريخ الكبير، فبرّر عدم إخراجه له في الصحيح، وهو ما لم يفعله في أحاديث انفرد بإخراجها الإمام مسلم، واكتفى البخاري بعدم الإخراج، ما يوحي بأن لها وجها من القبول عند غيره؟
ويُضاف إلى ما سبق أن ارتبط بهذا الحديث مخالفة صريحة لما ورد في القرآن، ونصّ أكثر من واحد على أن الإجماع على خلاف ما ورد في متنه، وبالرغم من كل هذا يعاكس الشيخ الألباني رحمه الله هذه الحقائق، ويصحِّح الحديث؟ !