الأستاذ حمودة بن ساعي / سعدي بزيان
ما عرفت عالما ومفكرا عظيما في بلادنا عانى من الفقر والتهميش مثل ما عاناه المفكر الأستاذ حمودة بن ساعي أستاذ مالك بن نبي رحمهما الله معا، فهو خريج “السوربون” حاربه المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون في باريس وتجاهله قومه في عاصمة الأوراس. اتهمه ماسينيون 1883-1961 بالتعصب والعداء لفرنسا، واللغة الفرنسية في الجزائر، تعرفت على الأستاذ بن ساعي في مكتبة النهضة بباتنة لصاحبها عبد الكريم قرفي ابن المصلح الكبير سي المسعود القرفي وقد حدثني أكثر من مرة بحسرة عن واقعه الذي يرثى له في حين يتمتع زملاؤه من مصر الذين درسوا معه في السوربون بمناصب عليا في بلادهم في حين لا يكاد حمودة بن ساعي يجد قوت يومه في وطنه، بينما أناس أميون وشبه أميين يتمتعون بمناصب عليا ويجنون مكاسب لا يستحقونها وصدق من قال “تموت الأسد في الغابات جوعا، ولحوم الطير تطرح للكلاب” ولطالما حدثني الشاعر وضابط الجيش التحرير والديبلوماسي أحمد معاش رحمه الله منهم الدكتور كمال أبو المجد في مصر الذي أصبح وزيرا للإعلام في بلاده عن مأساة المفكر حمودة بن ساعي وما يعانيه من ضنك العيش في مسقط رأسه وهو العلامة في اللغتين الفرنسية والعربية وحاضر في أكثر من مكان ونشر في أكثر من جريدة ومجلة فيا حبذا لو جمعت هذه المقالات وهذه المحاضرات في كتاب تستفيد منه أجيال الحاضر وأجيال المستقبل، ولطالما قام صديقنا معاش بزيارته وزوده بمواد غذائية. أليس من العار علينا في الجزائر أن نكون شهودا على مثل هذه المآسي تطال مفكرا من طراز حمودة بن ساعي؟ وقد عاتب كثير من الحاضرين الأستاذ فضيل بومالة الذي سبق له وأن استضاف المرحوم بن ساعي في برنامجه الجليس الذي بثه التلفزيون الجزائري في ربيع عام 1998 قبيل وفاته. اعتبره ابن باديس من أنجب تلامذة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذين درسوا بفرنسا، وكان بن ساعي مثار تقدير من عدة شخصيات عربية وفرنسية، وفي مقدمتهم المفكر الجزائري مالك بن نبي 1905-1973، الذي كان يعتبر حمودة بن ساعي أستاذه وملهمه في حياته الثقافية والفكرية، غادر بن ساعي هذا العالم الفاني إلى دار الخلد. فمن منا يقوم ببعث تراثه وتقصي نشاطه ليضع ذلك في خدمة القارئ الجزائري ويعيد الاعتبار لمفكر جزائري عاش التهميش فمات غريبا ومظلوما من بني قومه.
وهكذا تشاء الأقدار ويلقى شقيق بن ساعي حمودة صالح بن ساعي الذي يعد أول مهندس زراعي في الجزائر حيث يموت في صمت في مدينة القنيطرة بالمغرب بعيدا عن الأهل والوطن. إنها مآس عديدة عاشتها الجزائر منذ القدم فابن خلدون الذي كتب مقدمته الذائعة الشهرة في فرندة في خلوة بعيدا عن مؤامرة الدور والقصور، فمات في القاهرة وفيها دفن، وفيها مات، ودفن صاحب كتاب “نفح الطيب” للعلامة المقري1 بعد أن أتم كتابه المذكور، ودفن المناضل محمد قنانش في إسبانيا وهو الذي سجن مع مصالي الحاج، وهو الذي أشرف على مخطوط جريدة المنار للداعية والصحافي محمود بوزوز والذي مات في جنيف ودفن في بجاية مسقط رأسه ولا يعرف هذا الجيل شيئا عن جهاده في خدمة العربية والإسلام.
دار نشر عالم الأفكار تبعث الحياة في فكر ابن ساعي وجهاده في سبيل الإصلاح ونشر الفكر التنويري في بلده الجزائر والعالم العربي، وقد تلقيت نسخة من كتاب:
Hommage est témoignages Mohamed Bensai ou le farouche destinateur D’un intellectuel Algérien
وقدم لهذا الكتاب الأستاذ الصادق سلام الباحث في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر، والذي يعيش في باريس، وقد عد الكتاب وترجمه الأستاذ نور الدين خندودي منشورات عالم الأفكار، وصدر الكتاب سنة 2008 وقد سلم لي قرفي رضا الترجمة العربية للأستاذ نور الدين خندودي وهي ترجمة رائعة، وقد تعهدت أنا شخصيا أن أضعه في مقدمة مفكري الإصلاح في الأوراس، شاد به ابن باريس والإبراهيمي وقد ظل هذا المفكر والكاتب باللغتين مجهولا ومهمشا وهو الذي درس مع شخصيات مغاربية صالح بن يوسف الزعيم التونسي الذي اغتاله عملاء بورقيبة في فرنكفورت بألمانيا الاتحادية سنة 1961، كما درس مع الأستاذ الهادي نويرة أشهر وزراء بورقيبة، ومن المغرب محمد الفاسي، وأحمد بلا فريج، وهما شخصيتان سياسيتان لعبتا دورا في الحياة السياسية المغربية في حين ظل حمودة بن ساعي يعاني مسغبة وفقرا في بلاده المستقلة وهو خريج السوربون وأستاذ الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي 1905-1973 رحمه الله، ويبدو أن قدر المثقف الجزائري هكذا كان قديما وحديثا يعيش في بلاده مهمشا ويموت بعيدا عن وطنه وليس حمودة بن ساعي المفكر وحده الذي تجاهله قومه، فهذا المرحوم علي الحمامي 1902-1949 الذي مات وهو يدافع عن وطنه الجزائر فنسيه الناس ولم يطلق اسمه على شارع أو ساحة عمومية، وهذا محمد تازروت 1898-1973 من كبار المختصين في الفكر الجيرماني وقد ترجم كتاب شبنغلر سقوط الحضارة الغربية إلى اللغة الفرنسية، وقد شارك الأستاذ الصادق سلام في نفض الغبار على بعض أعمال المفكر محمد تازروت منها كتابه: جزائر الغد، وقد أهدى إلي الصادق سلام نسخة من هذا الكتاب وها هو الصديق الطيب ولد العروسي مدير مكتبة معهد العالم العربي سابقا يشارك هو الآخر بإعداد دراسة قيمة باللغة العربية عن محمد تازروت وقد سلم لي نسخة من هذه الدراسة.
حمودة بن ساعي خيمة عداء وحقد من طرف لوي ماسينيون
يؤكد المرحوم حمودة بن ساعي أن المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون 1883-1961 ناصبه العداء والحقد بسبب مواقفه الوطنية، ويورد ماسينيون ذلك شخصيا ما قاله عنه الإبراهيمي وحمودة بن ساعي.
يقول عن الإبراهيمي اشتغلت 25 سنة للدراسة في غطاء شخص شخصيا في ثوب رجل متصوف، وكذلك فعل العديد من المستشرقين الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الاستعمار وأمجاده، وحتى لا نذهب بعيدا عن موضوعنا الأساسي وهو الحديث عن المفكر الإسلامي حمودة بن ساعي الذي عاش وهو لا يملك ثمن جريدة لوموند التي كان مواضبا على قراءتها وما من مرة التقيت به في باتنة إلا وفي يده جريدة لوموند، وشتان ما بين لوموند الأمس ولوموند اليوم، وقد فاجأ حمودة بن ساعي الرأي العام في الجزائر عندما أشاد بالشيخ حمزة بوبكر 1912-1995 الذي كان عميد مسجد باريس 1957-1982 عندما وقف الشيخ حمزة ضد جورج مارشي رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي سابقا، الذي قام أحد رؤساء البلديات للشيوعيين في بروفيلي بتحطيم مأوى للعمال المسلمين من مالي، واستنكر الشيخ حمزة ذلك بشدة باعتباره ممثلا للمسلمين عبر مسجد باريس، فحمزة بوبكر بحكم ماضيه الوطني كشخص طالب بفصل الصحراء عن الجزائر، وقد صادرت الدولة الجزائرية ممتلكاته بعد الاستقلال وظل يعتبر في نظر الوطنيين معاديا للوطن والوطنية الجزائرية، وإن تصالح مع وطنه في آخر حياته واسترجع أملاكه ودفن في الجزائر.