في رحاب الشريعة

الذكرى (56) لاستقلال الجزائر أيام عظيمة الذكر من تاريخ أمة عظيمة القدر / محمد مكركب

تاريخ الجزائر حافل بآلاف الأحداث العظيمة التي لايستوعب مجرياتِ وقائِعِها المصنفاتُ والمجلداتُ، وتلك الأحداثُ تشهد للتاريخ بأيام يكاد يعجز عن وصفها الواصفون، ومحطاتٍ يتيه في دوائرها المفكرون، من عهد مملكة مسينيسَّا، إلى مسينَّا، في العهد الروماني. إلى يوغورطا ويوبا الثاني، ومنذ القديم والمغرب من (ليبيا إلى موريطانيا) مهدد بغارات عدائية من أوروبا، في طمع الاستيلاء على بلاد المغرب عامة، والجزائر خاصة، كما فعل الرومانُ، والوندالُ، والبزنطيون، فدافع السكان عن سيادتهم وكيانهم، وشرف وطنهم، مدافعين عن وجود عزتهم ومأواهم التاريخي والجغرافي.

إلى أن من الله على أهل المغرب بالفتح الإسلامي المبارك، حيث جاء الفاتحون برسالة الإسلام، وبشائر السلام، منذ القرن الأول الهجري، (القرن السابع للميلاد) وأشرق نور الإسلام على هذه الأرض، كان ذلك يوم استقلال الجزائر وكل المغرب الإسلامي بالحياة والهداية وطريق الجنة. ﴿وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً﴾ جاء الفاتحون برسالة السماء إلى أهل هذه الأرض، ليقولوا للناس. ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾

ومن يومها ثبت الشعب الجزائري على الإسلام، بل وكل شعوب الشمال الإفريقي، ومرت أحداث وأحداث إلى أن حدث ما هو من قضاء الله وقدره أن غار الجيش الفرنسي الظالم على الجزائر، في العقد الثالث من القرن التاسع عشر للميلاد،1830م فاحتلت فرنسا القطر الجزائري ظلما وعدوانا. والتاريخ دول، والدهر يومان يوم نصر وأفراح، ويوم انهزام وأتراح،قال الله تعالى: ﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (إبراهيم:5) ونورد في المقال بعض النقاط للتأمل والاعتبار، والتدبر والاستبصار.

أسباب احتلال الجزائر من قبل فرنسا 1830م

من هنا يبدأ التأمل والاعتبار في ذكرى الاستقلال، ما هي أسباب وقوع الجزائر تحت سلطة الاحتلال الفرنسي؟ كانت الجزائر تنعم بسيادتها كبلد آمن، وشعب حر مستقل، في بلد له حدوده الجغرافية، وله دينه وهو الإسلام الدين الحق، وله لغته وثقافته القرآنية السنية، وكيانه السياسي، وكانت الجزائر يومها في ظاهر الأمر أقوى من فرنسا، بل إن فرنسا كانت مدينة للجزائر. وهذا الذي جعل الأوروبيين تظل أعينهم على طول التاريخ مشدودة نحو المغرب والجزائر بالخصوص، طمعا في خيراتها، وحسدا على الدين والشباب وجلال الطبيعة والثروات، وسبب آخر وهو الحقد الدفين الذي يغذيه الصليبيون ضد الإسلام.﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ (البقرة:109) فقامت أوربا المستعمرة بحملات الجوسسة على المغرب الإسلامي عموما والجزائر خصوصا، بالمكر، والكيد، والحملات والغارات العسكرية.. وللاعتبارْ، وحتى لا يتكرر مرة أخرى طمعُ الكفارْ، أقول: ماذا حدث حتى استطاعت فرنسا 1830م أن تأتي من هناك من بعيد، من وراء البحر وتُسْقِط حكومة الداي حسين، وتقع الجزائر تحت الاحتلال؟ ما هي الأسباب؟ كيف بلغ العجز والهوان بحكومة الداي لأن تتعثر تلك العثرة التاريخية الكبرى التي لاينساها لها التاريخ؟ كما لاينسى التاريخ جرائم فرنسا، وقبائح فرنسا، وأظلم عدوان استعماري عرفه التاريخ في العصور الحديثة. نذكر بعض الأسباب السلبية التي حصلت قبل وأثناء: 1830م للعبرة والموعظة، لعلهم يذكرون. ونحن إذ نذكر هذه الأسباب من أجل الاعتبار، وما حذر منه الله الواحد القهار. قال ربنا تبارك وتعالى:﴿وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا﴾ (البقرة:217) نذكر من بين الأسباب والثغرات والتقصير والسلبيات:

1 ـ الغفلة السياسية الشبيهة بغفلة الأندلسيين والتي بسببها انهزم ملوك الأندلس، وطُردوا من رحاب أكبر جزء حضاري من دولة الإسلام، ونُذكِّر بهذا لأن سبب هذه الغفلة لايزال يتكرر إلى الآن في كثير من البلدان الإسلامية، ومنه إهمال المرجعية الدينية، والمرجعية القيادية، والإحكام التام لضوابط المواطنة الفعلية، أعني المواطنة المنضبطة بالسياسة الشرعية الجامعة، فقها، وقانونا، واقتصادا، ورموزا، وانتماء فقهيا وحضاريا وانتظاما سياسيا. عملا بقول الله تعالى. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾ وقول الله تعالى:﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ﴾ (آل عمران:105)

2 ـ انعدام اليقظة السياسية وترك الثغرات التي يتسرب من خلالها الجواسيس الأجانب إلى داخل البلاد، والتجارة الأجنبية المفتوحة، وضعف تحصين المرابطة الجندية على الحدود، عدم تنظيم وتنسيق القلاع والحصون على الحدود البحرية والمداخل البرية. والتقصير الكبير في الطرق والمداخل والمخارج الاستراتيجية للتنقل والدعم الدفاعي.

3 ـ كان التقصير في هيكلة الجيش مع ضعف الروح الجهادية، وضعف التنظيم المدني، إدارة وعمارة وتنسيقا، والتقصير في الإعداد في الاتصال والتواصل، وتوزيع أماكن المعدات الاقتصادية العامة، والخاصة بالجيش.

4 ـ  انعدام خريطة المخطط الأمني الدفاعي، وهذا تابع للخطأ الأول (الغفلة السياسية) ولكن ذكرناه في عنصر خاص لأنه أهم ما يجب الاهتمام به  في حفظ وحدة  الإقليم وحمايته على الدوام. ألم تعلموا أن أربعة أنواع من الإعدادات غفلت عنها الشعوب التي تخلفت  وهي الخرائط الأربع الضامنة لدوام صحة وثبات كيان المجتمع السليم، وحفظ سيادة الدولة وعزتها ومستقبلها الزاهر: 1 ـ الخريطة الوطنية البيانية السياسية. 2 ـ الخريطة الوطنية للمخطط الأمني الدفاعي. 3 ـ الخريطة الوطنية للمنظومة التربوية التعليمية. 4 ـ  وأخيرا الخريطة الوطنية للمنظومة الاقتصادية.

5 ـ السلبية الخامسة ترك العاصمة في مرفأ بحري قليل التحصين، في حين المفروض أن تكون العاصمة معصومة بتدابير أمنية وعمرانية، وأن تكون وسط البلاد، نعم أن تكون العاصمة وسط الإقليم جغرافيا. كمركز إداري قيادي عام جامع لكل أطراف البلاد في آن واحد، حتى إذا وقع خلل في أي جزء من إقليم الدولة يظل القلب والدماغ في الوسط ينسق ويدير ويوجه، ويرشد.

6 ـ تخزين الأموال وعدم استثمارها في العلم وتنظيم الجند والمهندسين، والتقصير في الإعداد المادي، والمثل يقول: {العلف عند الغارة لايفيد} فعندما دخل المحتل وجد أموالا مكنوزة من ذهب وفضة فاستولى عليها باردة، وكان الأولى أن تستثمر في الإعداد ولاتجمد، وأن يقوى بها الجنود، وتُحَصَّن بها الحدود، وتنفق فيما يرضي الواحد المعبود.

7 ـ التقصير في شبكة المواصلات ووسائل التنقل وخاصة شبكة الطرق. وأن تكون الطرق الكبيرة الرابطة بين المناطق والأماكن الاستراتيجية محروسة بالتلقائية الطبيعية والمدنية، ومنتظمة حيث يستطيع المواطنون والجيش الوطني أن يتحرك بحرية، والعدو لا يستطيع المرور، إن حدث غزو، مع تنظيم المدن وفق إحكام عمراني يناسب العصر. قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ (سبأ:18)

بعد سقوط حكومة الداي 5جويلية 1830م

انطلقت المقاومة الشعبية  مع ثبات والي قسنطينة أحمد باي، وكثير من جهات الوطن، ومحاولة إعادة بناء الدولة من جديد تحت قيادة الأمير عبد القادر1832م إلى 1847م وبعض المواقع الدفاعية القليلة التنظيم، ونظرا للسلبيات المذكورة  فلم يستطع الشعب الدفاع والثبات أكثر مما فعل. لكن استمرت المقاومة الجهادية في شكل ثورات  جهوية. منها: مقاومة أو ثورة محمد بن عبد الله، المدعو بومعزة، ومحمد الهاشمي بوعودة، وثورة الزعاطشة، والشريف محمد بن عبد الله، والشريف بوبغلة، وابن ناصر بن شهرة، وأولاد سيد الشيخ، ومحمد المقراني، والأوراس، وبوعمامة، وثورات أخرى لها أهميتها ودورها الفاعل في تاريخ الجهاد في الجزائر. إلى أن يسر الله تعالى ووفق رجالا  لجمع كلمة ووحدة جهاد الشعب الجزائري في الخمسينيات من القرن العشرين، وكان ماعرف في التاريخ الجزائري بثورة أول نوفمبر 1954م.

الخصائص المشتركة لكل هذه الثورات وحتى ثورة نوفمبر 1954م

1 ـ المقاومة تحت عنوان الجهاد في سبيل الله تعالى، ما من ثائر قام يدافع عن الجزائر  منذ أن نزل المحتل الغاشم هذه الأرض إلا باسم الله، والله أكبر، والله أكبر والجهاد في سبيل الله، هو العنوان الأكبر لكل مراحل المقاومة، حتى في ثورة نوفمبر 1954م سمينا الثائرين المكافحين، سميناهم {المجاهدين} وسمينا الصحيفة الإعلامية أيام ثورة التحرير {جريدة المجاهد}. 2 ـ الثبات على أن الشعب الجزائري الذي يسكن هذا الإقليم المعروف بحدود الجزائر المعروفة أنه شعب مسلم، يعمل بالقرآن الكريم، ومتبع للرسول صلى الله عليه وسلم، ويحتكم إلى الشريعة الإسلامية، وهذا العامل (وهو التمسك بالقرآن والانتماء الحق للإسلام) هو السبب في انتصار الشعب الجزائري على دولة فرنسا بفضل الله عز وجل. 3 ـ اعتبار فرنسا أنها ظلمت الشعب الجزائري وأنها محتلة ظالمة، ويجب أن تخرج من أرض الجزائر. 4 ـ تعززت هذه الخصائص أكثر وبرزت أيام ثورة أول نوفمبر 1954م، بالإعلان الرسمي أنها ثورة جهادية قرآنية بإجماع الشعب الجزائري، واعتبار الشعب الجزائري  أنه شعب مسلم لا ينفصل عن الأمة الإسلامية العالمية. شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب. من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب. أو رام إدماجا له رام المحال من الطلب. وفي بيان نوفمبر{إقامة الدولة الجزائرية ضمن إطار المبادئ الإسلامية} و{ تحقيق وحدة الشمال الإفريقي في داخل إطارها الطبيعي العربي الإسلامي}. 5 ـ التعاون مع كل الشعوب العربية والإسلامية.

ويلي هذه المقدمة مقالان إن شاء الله تعالى، الأول:{دور جمعية العلماء، في المقاومة والجهاد، والدعوة والإصلاح والإعداد.} والمقال الثاني:{ مسيرة الجزائر،من جهاد التحرير، إلى جهاد التعمير} إن شاء الله العليم الحكيم.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com