في رحاب الشريعة

بين البخاري ومسلم..أو علل المتن والسند(1)/ د. محمد عبد النبي

أكّدنا مرارا أن علم الحديث علم اجتهادي لا قطع فيه، وآراء علمائه تدور بين الراجح والمرجوح، صحيح أنّ هناك قواعد وضوابط تضبط شتاته، وتُقرِّب شارده، لكنها قواعد لم تستقرّ إلا بعد أن خُرِّجت الكتب، وصُنِّفت المصنفات، وما الحُكم على الأحاديث – والاختلاف فيها تصحيحا وتحسينا وتضعيفا، وعلى الرواة تعديلا وتجريحا وسكوتا- إلاّ مظهر من مظاهر الاجتهاد المُشار إليه، فإذا أضفنا لذلك اختلافَهم في التعليل-الذي يشبه الحدس الناشئ عن الخبرة والدربة- علمنا بما لا يدع مجالا للشك صعوبة الأمر، ومدى تعذّر الجزم أو القطع، الذي قد يُستدرج إليه بعض المتأخرين وبعض المعاصرين.

قال الإمام مسلم في صحيحه (4/ 2149):”حدثني سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، قالا: حدثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع – مولى أم سلمة- عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل..”.

وقد أخرج الحديث أيضا ابن خزيمة في صحيحه (2/838) وابن حنبل في مسنده (14/82) والنسائي في السنن الكبرى (10/20) وابن حبان في صحيحه (14/30) وغيرهم.

يبدو أن هذا الحديث قد ارتبط به أمران، أسلماه إلى التعليل عند أكثر الأئمة، بالرغم من إخراج أئمةٍ كبار له ! والتعليل نصّ عليه أئمة كبار أيضا، وقد هال بعضَ العلماء المعاصرين أن تُنتقص هيبة الإمام مسلم فانبروا للدفاع عنه، وعن الحديث الذي أخرجه، وزاد من”مشروعية” هذا الدفاع أن تناولَ الحديث أقوامٌ ارتبطت أسماؤهم بالنيل من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والتأثّر بآراء بعض المستشرقين، الذين عُنوا بتسقّط الثغرات في هذا الميراث النبوي الشريف !

فالعلّة الأولى: هي أنّ الإمام مسلما- ومَن معه- أخرجوا هذا الحديث مرفوعا، وقد أعلّه أئمّة آخرون بالوقف، وجعلوه من كلام كعب الأحبار، نقله عنه أبو هريرة رضي الله عنه، فلم يكتف البخاري بعدم بإخراجه، وإنّما نصّ على إعلاله، فقال في كتابه التاريخ الكبير (1/413):” وروى إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد الأنصاري عن عبد الله بن رافع عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلق الله التربة  يوم السبت، وقال بعضهم عن أبى هريرة عن كعب، وهو أصح”.

وبالرغم من أن الإمام ابن خزيمة قد أخرج الحديث مرفوعا-كما أشيرَ إلى ذلك من قبل- إلاّ أنه أخرج حديثا آخر قبله مرفوعا-أيضا- عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/836) قال:” خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة”. ثم قال:” قال أبو بكر: قد اختلفوا في هذه اللفظة في قوله “فيه خلق آدم” إلى قوله “وفيه تقوم الساعة”، أهو عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أبي هريرة عن كعب الأحبار؟ قد خرّجتُ هذه الأخبار في “كتاب الكبير” مَن جعل هذا الكلام روايةً من أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن جعله عن كعب الأحبار، والقلب إلى رواية مَن جعل هذا الكلام عن أبي هريرة عن كعب أَميَل..”ثم دلّل على ذلك بما ساقه بسنده إلى أبي هريرة قال:” خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، قال: قلت له: أشيء سمعته من رسول الله  صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل شيء حدثناه كعب“. ثم ختم ابن خزيمة المسألة بالقول:” وأما قوله:” خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة” فهو عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا شك ولا مرية فيه، والزيادة التي بعدها:” فيه خلق آدم” إلى آخره هذا الذي اختلفوا فيه، فقال بعضهم: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: عن كعب”.

وجاء في كتاب الفوائد المعللة لأبي زرعة (266) قوله:” ومنها قولهم في يوم الجمعة -ثم ساق بسنده إلى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، قال أبو زرعة: فذكر الحديث…خالفه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة..” ثم ساق بسنده رواية الأوزاعي قال:” حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة حدثني أبو هريرة قال: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، قال: قلت: أمِن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته هذا؟ قال: بل حدثنا كعب”.

وقال ابن رجب في شرحه على البخاري (8/290-291):” ورواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فجعل الحديث كله عن كعب في:( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة) لم يرفع منه شيئا، وقال: لم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، حدثني به كعب”.

وأشار إلى مَن رواه موقوفا ثم قال:” ورواه محمد بن كثير عن الأوزاعي، فرفَعَه، ورفْعُه خطأ، ورجّح هذه الرواية أبو زرعة الدمشقي”.

وأضاف ابن رجب:” ويعضده أيضا: رواية حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فرفع منه ذكر ساعة الإجابة، وجعل باقي الحديث في فضل يوم الجمعة، وما فيه من الخصال، وتعيين ساعة الإجابة كله من قول كعب، ولعل هذا هو الأشبه”.

وختم القول في المسألة بقوله (8/292):” وقد رُوي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة) وذُكر ما فيه من الخصال من طرق متعددة، وهي معللة بما ذكرناه، ولذلك لم يخرج البخاري منها شيئا، وقد خرجه مسلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا..”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com