من المسائل ذات الأهمية أن يدرك المرء منا حقائق الأمور إدراكا يقينيا شاملا؛ خاصة عندما يتصل الأمر بعلمائنا وزعمائنا ودعاتنا، ومن هذا الباب ما وجدتُه وأنا بصدد قراءة كتاب مهدى من الأخ مسعود حسنين الورتلاني عن والده الفاضل المربي والمصلح الكبير الفضيل الورتلاني بعنوان: “الفضيل حسنين الورتلاني: نصوص من آثاره وشهادات العارفين بجهاده “من إعداد الأستاذ الدكتور محمد العيد تاورته، بالتعاون مع نجل الأستاذ الورتلاني(مسعود حسنين).
جاء ضمن الوثائق المهمة التي اشتمل عليها الكتاب في الملحق ما كتبه بخط يده المفكر والباحث والأستاذ الجامعي والكاتب الكبير مصطفى الشكعة (1917-2011) عضو مجمع البحوث الإسلامية، ورئيس لجنة الدعوة والتعريف بالإسلام في وزارة الأوقاف المصرية، جاء في وصفه لشخصية الأستاذ الفضيل الورتلاني قوله: “..كان بمثابة كتيبة كاملة..” .وقد استوقفني هذا الوصف، إلى جانب الكلام الطيب الكثير الذي تحدث به الدكتور الشكعه عنه وعن صلته القوية بعد على مدار زمن غير قصير، عندما كان الشيخ الفضيل في القاهرة صادحا بكلمة الإسلام والجزائر، صادعا بكلمة الحق في محافل ومنتديات القاهرة ، دون أن ننسى أدواره في أقطار أخرى كاليمن ولبنان وفرنسا وسواها.
استوقفني هذا الوصف ودلالاته من رجل قدير عُرف عنه عمله في صفوف الجمعيات الإسلامية كالشبان المسلمين والإخوان وغيرهما إلى جانب اهتمامه بالكتابة والبحث والتدريس. وبعد قراءة لرسائل وشهادات أخرى أتاحت الوقوف على خصائص شخصية الورتلاني -رحمة الله تعالى عليه- أحب أن أسجل بعض الملاحظات على سبيل الاستخلاص والتذكير:
أـ لمَ نتأخر نحن في الجزائر ـدائما ـ عن تثمين “الإنسان” عندنا، قديما وحديثا، وفي كل المجالات تقريبا؟ .ليست صدفة بطبيعة الحال، ولكن عندما يمتد الإهمال ويتعمق إلى هذا الحدّ فإنه من الجدير بالذكر مدّ إصبع الاتهام لجهات تريد طمس كل ما هو قيّم ورائع ..في هذا الوطن .
ب ـ تكشف قراءة سير الأعلام من أمثال الورتلاني التأكيد على مسألة ” الحاجة الماسّة” فعليا ، الآن خاصة ، إلى هذا النوع من الرجال(الرجل/الكتيبة) لإحداث ما يجب من التغيير وتحصيل الانتقال إلى واقع أفضل وأحسن وأقوى وأليق بوطن كبير عظيم كهذا الوطن .وهذه الطبقة من الرجال (والمورد البشري عموما) هو مفتاح أي حركة نحو أفق أسمى وأنقى .رجل أو”إنسان ” بمواصفات خاصة وبإقدام وفكر استراتيجي وخلفية نقية وصدق وإخلاص.
ج ـ من يتقصّى حياة الفضيل الورتلاني ويستعرض ما قدمه مع الكوكبة الطيبة من الرجال الأطهار الأفاضل يجد “غمط حق ” كبير لهذا الرجل وأمثاله، في سياق تغليب “الرداءة” و”السطحية” و”أسبقية المتملق ” على غيرهم، وهذا داء لا نعلم متى يمكن التخلص منه تحديدا، وهو داء قاتل .
دـ الخسارة التي تلحقنا بسبب سياسة الإهمال خسارة استراتيجية أبسط صورها إظهار الوطن خاليا من “الرموز”، مع أنها موجودة وكثيرة، وإبدالها برموز مزيفة مع تسويقها بما يمكن، فيقع اللبس ويهتم الناس بالتوافه والتافهين؛ حيث لا معرفة لهم بالـ “القماقيم”.الفضيل مجرد نموذج.
هـ ـ يمكن وصف حياة الأستاذ الورتلاني أنها حياة ملحمية لوفرة ما قدمه لدينه ووطنه ولجمعية العلماء، منذ إجباره على أداء الخدمة العسكرية الإجبارية سنة 1920، إلى انتقاله إلى قسنطينة لاستكمال دراسته على يد العلامة ابن باديس، إلى انتدابه إلى فرنسا ممثلا للجمعية(أسس 30 ناديا ومدرسة هناك)، إلى تعرّضه لمحاولة اغتيال واختطافه من العدو، إلى خروجه متخفيا والتحاقه بالأزهر(حيث استكمل دراساته )، إلى تأسيس مركز لجمعية العلماء وعنايته بالطلبة الجزائريين، إلى مشاركاته التي لم تكن تنقطع في شؤون شتى..الخ ……حياة جديرة بأن تُصاغ برؤية مبتكرة تلفزيونيا ـ دراميا لتقدم صورة رجل غير معهود وحياة حافلة بكل ما هو إيجابي .رحمة الله عليه، نسأل الله تعالى أن يفتح علينا هذا الباب ويرزقنا برجال من هذا الطراز.