قضايا و آراء

ما لم يكن يعرفه داروين..!/ علي حلتيم

لا تزال نظرية داروين تثير الجدل إلى اليوم منذ أن نشر تشارلز داروين كتابه الشهير “أصل الأنواع” سنة 1859م.

وإذا كانت سنة نشر الكتاب لم تثر فيك انتباها ولا عجبا فاعلم أن ذلك التاريخ ذو دلالة هائلة، ويبين أن داروين قد وضع نظرية بعيدة كل البعد عن العلوم والمعارف التي نعرفها اليوم لأنها لم تكن موجودة أصلا في ذلك الزمن!

ففي عصر داروين لم تكن قوانين الوراثة قد اكتشفت بعد(1900)، ولا البيولوجيا الجزئية  biologie moléculaire وهي أساس كل علوم الحياة ولا الكيمياء العضوية ولا الهندسة الوراثية، وحتى كلمة جبنة فإنها لم تظهر إلا سنة 1909م وانتظر العلماء حتى سنة 1995م حيث نشر أول خارطة جينية لكائن حي، وفي سنة 2001م نشرت الخارطة الجينية للإنسان بالكامل.

في عصر داروين كان الناس يعتقدون بالتولد أو الخلق الذاتي génération spontanée أي أن المخلوقات الصغيرة يمكن لها أن تنشأ من العدم! وكان العلماء يعتقدون أن الخلية عبارة عن كيس مائي بسيط لا أهمية كبيرة له ولم يكونوا يعرفون مكونات الخلية ولا البروتينات ولا الأنزيمات ولا الأحماض الآمنية ولا البكتيريا ولا الفيروسات ولا الذرة ولا كثير شيء في العوالم الصغيرة.

فماذا فعل داروين إذا كانت كل هذه العلوم غير موجودة في وقته؟

كانت أوروبا زمن داروين مسكونة برياح فلسفة الأنوار التي دعت إلى  العقل التجريبي والمعرفة العلمية ونبذ الدين وسلطة رجاله من ميدان العلوم مما نتج عنه هوس كبير نحو البحث والاستكشاف، ومحاولة كشف القوانين التي تفسر الطبيعة بعيدا عن الطروحات الكنسية التقليدية.

وكان العلم السائد زمن داروين هو علم تصنيف الحيوانات والطيور والنباتات أو ما يسمى التاريخ الطبيعي، وقد ألف جد داروين نفسه (إيراسموس) كتابا في هذا الفن قرأه تشارلز مرتين وتأثر به.

وعندما سافر داروين سنة 1836م في رحلته البحرية الشهيرة نحو جزر غالاباغوس Galapagos وأرض النار (الأرجنتين) كانت الأفكار حول التطور قد بدأت تنتشر مع لامارك (1809م) وغيره وكان علماء الطبيعة يحاولون أن يجدوا قانونا يجمع بين كل هذه الحيوانات والنباتات التي صنفوها في كتبهم ومعاجمهم بدل أن يقولوا إن الله هو الذي خلقها، وكان علم التشريح المقارن Anatomie comparée قد بدأ يأخذ مكانه بن العلوم في ذلك العصر، ومن ثم جاءت فكرة المقارنة بين الحيوانات في الفصيلة الواحدة وبين الفصائل المختلفة من الحيوانات وهو ما دفع داروين الذي كان مهووسا بجمع وتصنيف أنواع الطيور والحشرات إلى القول بفكرة التطور بين المخلوقات.

لكن داروين لم يكن وحده من قال بهذه الأفكار بل إننا نجد أنها كانت متداولة في الأوساط العلمية المتحمسة لكل ما هو جديد بدليل أن لامارك نشر كتابه الأول عن التطور سنة 1809م ونشر آخرون أفكارا عن التطور قريبة من أفكار داروين لا يسع المجال لذكرها وليس غرضنا في هذا المقال أن نثبت أن داروين قد أخذ عن غيره (رمى بعض معاصريه داروين بالسرقة العلمية)، ولكن غرضنا هو أن نبين أن فكرة التطور كانت موجودة يدفعها الرغبة في استكشاف قوانين علمية جديدة ويدفعها تيار الأنوار الذي يريد أن ينأى بالعلوم عن الدين.

فما الذي استند إليه داروين حتى قال بالتطور؟

اعتمد داروين على الملاحظات التي دونها في رحلته مثل الاختلافات بين مناقير الطيور من النوع الواحد، وكانت كل مجموعة متميزة بمنقار تقطن في جزيرة مختلفة مما يدل على أن تلك الطيور قد تكيفت مع محيطها وتطورت حسب معطياته الجديدة. أما الحيوانات التي تعجز عن التكيف فإنها ستفنى وتموت ومن ثم جاءت الفكرة التي قامت عليها نظرية التطور كلها: الانتخاب الطبيعي.

وحاول داروين أن يجمع بعض المستحثات fossiles ليثبت أن ذلك التطور قد حصل بالفعل عبر التاريخ ساعده في ذلك أن علم المستحثات paleontology كان علما ناشئا بلا قواعد فكان من شاء يقول فيه ما شاء حتى تبين فيما بعد أن عظام داروين لم تكن ذات قيمة علمية كبيرة.

لقد ارتكب داروين أخطاء علمية فادحة لكنه كان معذورا!

أخطأ عندما عمم ملاحظاته على عالم الحيوان كله في الزمان والمكان، وأخطأ حين لم يدرك الفرق الكبير بين التطور داخل النوع أو التطور الصغير micro évolution والتطور بين الفصائل أو التطور الكبير macro évolution وأخطأ عندما خلط بين خياله والواقع والعلوم (كان عمر داروين اثنين وعشرين سنة عندما خاض رحلته البحرية)، لكنه كان معذورا لأن روح العصر وعلومه في ذلك الوقت لم تكن تسمح بإدراك فداحة ما يقول.

إن التطور الصغير micro évolution هو تكيف طبيعي مبرمج جينيا مسموح به بيولوجيا مشاهد في الواقع ويمارسه البشر حين يريدون أن يحسنوا من فصائل حيواناتهم (الأبقار مثلا) أو نباتاتهم لكنه تطور لا ينقل نوعا إلى نوع جديد ولا يخلق جينات جديدة أبدا، وهذه الحقيقة أصبحت معروفة وأفقدت نظرية التطور أهم أدلتها: ملاحظات داروين.

أما علم المستحثات فقد بين لنا بما لا يدع مجالا للريب أن الأنواع الوسيطة التي تحدث عنها داروين لم تكن موجودة وأن الأنواع التي نعرفها اليوم هي ذاتها الأنواع التي وجدت منذ ملايين السنين وبذلك علمنا أن التطور لم يحدث إلا في ذهن داروين ومن اتبعه من الناس.

يبقى أن نشير في الأخير إلى ملاحظة يكررها كثيرا أنصار الداروينية وهي قولهم إن اقتناع ملايين العلماء بهذه النظرية لهو أكبر دليل على صدقيتها.

إن قناعة العدد الكبير فضلا على أنه ليس دليلا بحد ذاته (فقد اقتنع البشر طوال عشرين قرنا بمركزية الأرض واقتنع الملايين بالمادية الجدلية لكارل ماركس واقتنع الملايين بخرافات فرويد الذي يقول إن الرضيع يلتقم ثدي أمه يدافع الجنس ويكره أباه الذي ينافسه في حب أمه!) فهو ليس صحيحا كذلك وقد بدأت الدراسات تظهر أن قطاعا واسعا من العلماء في الغرب لا يؤمنون بهذه النظرية ومنهم متحصلون على جوائز نوبل والمعركة في الولايات المتحدة قائمة على أشدها بين أصحاب نظرية الخلق creationists والتخطيط الذكي intelligent design من جهة والتطوريين من جهة أخرى، ويكفيك أن تدخل إلى اليوتوب وتكتب Darwin critics لتحصل على عشرات المحاضرات والتصريحات لعلماء مرموقين يعلنون أن هذه النظرية على شهرتها مجرد أسطورة من الأساطير.

يقول المولى جل وعز:

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com