شؤون تربوية

إصلاحات التربية تحتاج لإصلاحات

أ‌- كمال بن عطاءالله/

من المواضيع الجديرة بالاهتمام والبحث والمتابعة الدقيقة لكل واعٍ بهموم أمته مدرك لواقع حالها مستشرف لمستقبلها وما يخطط لها، إنّها إشكاليات “التربية والتعليم”، ها نحن في الموسم الدراسي الـ62 منذ الاستقلال، مرّت مراحل تاريخية وأزمات وحكومات ووزراء ولجان، تخلّلتها عناوين إصلاحية واجتهادات، كانت مقيدة بظروف ومحددات، نتيجتها ما نحن فيه الآن!، هل الحصيلة مرضية؟، هل الأهداف تحقّقت؟، هل وصلنا للغايات المسطرة؟، هل الجزائر الأمّة الموحدة التي دفعت كلفة غالية لتكون على ما عليه الآن وبأي صورة؟، هل هذا هو المرسوم والمتصوّر من طرف من دفعوا الأنفس والأغلى لنكون الأفضل ؟!، الموضوع ولا شك شائك جدا في داخله و مع غيره، لكنّها محاولة للتسلّل والمساهمة في التحليل من خلال تجربتي وقراءتي في بعض الجوانب الميدانية التي عايشتها لأكثر من واحد وثلاثين سنة وبداياتها في منعرج من المنعرجات الخطيرة.
نعم ميدان “التربية والتعليم” لأي أمّة يهمّ الفرد والأسرة والمجتمع ماضيا وحاضرا ومستقبلا، بل يتابعه الخصوم والأعداء لأنّه من صميم مصالحهم المادية والثقافية بالخصوص، هل يكفي أنْ ننتظر و نقرأ ونستمع لرزنامة العطل المدرسية؟، ثم دخول مدرسي سلس بمجموعة مشاريع منجزة وأخرى متأخرة قليلا سنتسلمها بعد شهر؟، هل يكفي أنّ التعليم عمومي ومجاني لأكثر من عشرة ملايين متمدرس و يحرص عليه مئات الآلاف من المؤطرين…، وفي نهاية كل سنة مدرسية الناجحون بالآلاف في كل الميادين والأفراح والزغاريد تعمّ كل بيت جزائري جرّب طعم النجاح والشهادة لأحد الأبناء أو الأحفاد التي كانت أمنية وحكرا على بعض الألقاب الحضرية من ساكنة المدينة قبل بعض العقود، الأسئلة كثيرة تختلجني منذ سنوات وزاد إلحاحها في أواخرها…، لن أكون جاحدا لما أراه من توفر جوانب مُهمّة من الوسائل المادية في التعليم من مبان ومؤسسات منتشرة عبر وطني وصلت حتى للأرياف، وربّنا عز وجل يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾[سورة المائدة:08]، لكن؛ هل همّنا وغايتنا وهدفنا هو التباهي في عدّ المباني والـمتـمدرسين وعدد الخرّيجين من مهندسين ودكاترة؟…، إنّ الأمر أعمق وأعقد من هذا بكثير جدّا، على كل من يحب هذا الوطن بأهله ويعرف قدر التضحيات ونحن أحد ثمارها أن يردّد :” الاستثمار الحقيقي في الإنسان والبحث عن الطرائق المثلى لتشكيل المواطن الصالح المصلح لنفسه ولغيره، يلزمنا رؤية واضحة شفافة وبخطة عملية متقنة، لا تعتمد على الحظ ولا ترضخ لقوى ضاغطة”.
فالتربية: (هي مصدر من الفعل ربَّى يُربّي أي نشأ ونمّى، و في اللغة هي إطار للنمو والتنشئة والزيادة) وأيضا (من الفعل رَبَا يربو أي زاد ونما) وكلاهما يصبّان في مصب واحد، ونقصد هنا تربية الإنسان العاقل في بيئة واضحة المعالم، أما التعليم اصطلاحا: فهو (عملية تغـــــيّر شبه دائم في سلوك الفرد لا يلاحظ بشكل مباشر لكن يستدل عليه من السلوك ويتكون نتيجة الممارسة، كما يظهر في تغيّر الأداء عند الإنسان حصرا)، و”التربية والتعليم” في المفهوم الحديث أصبح يمارس خلال جدران المؤسسات والمختبرات ويقوم عليه الأستاذ أو المربي، رغم أن ذلك تصوّر خاطئ يقع فيه حتى المثقفون، إنّ هذه عملية ليست حكرا على ما ذكرت بل يشارك في عجنها الشارع والأسرة ووسائل التواصل المختلفة، وأهل الإبداع والفكر والساسة والأسرة والعادات والتقاليد السائدة[حسنها وقبيحها]، وقد تعرف انقلابا شنيعا في أي حدث مفتعل أو مخطط له كالحروب المتنوعة وأوضحها المادية وأخفاها وأكثرها أثرا الاجتماعية والثقافية وهي تكون طويلة الأمد ويشترك فيها أكثر من طرف من الداخل أو الخارج.
أقول إنّا معضلتنا في هذا التيه هو الصراع الفكري المحتدم بين النخب الفاعلة على أي مشروع يطبق فكانت النتائج على المستوى البشري وخيمة وفظيعة، إننا نرى الشباب – الأقل من الـ35سنة- وهم الفئة العمرية الأعلى عددا في المجتمع ولم تمر على فواجع الأزمات الحادة و تمدرست بالمدرسة الجزائرية الوطنية (الرسمية) وبمقررات موحّدة- تتنكر لتاريخها وهويتها ووطنها؛ ويغامر جزء منها ليهاجر بأي طريقة وبأي وسيلة؛ و جزء آخر فريسة للمهلوسات بأنواعها؛ وأفضلهم مستهتر بكيانه الوجودي من أسرة وأرض وتاريخ مجيد، هذا واقع ملموس ومشاهد، أعتقد أصبحنا هكذا للأسباب التالية:
– البرامج الدراسية التي تحتاج إلى تحيين ومراجعة من المختصين وفق مقاييس من أهمّها أن تكون من صميم هوية الشعب(الأمّة) من اهتمام باللغة العربية وإعطائها المكانة اللائقة من حجم ساعي إلى معاملات حسب الأطوار وإسنادها إلى أساتذة أكفّاء ونصوص مختارة وهادفة مبنى ومعنى لتحبّب للطالب ما يقرأ وتصله الرسالة المبتغاة؛ لأنّ اللغة وسيلة تواصل وتفكير وبها نبني مناهج وتصورات معرفية فهي ليست ألفاظا و أصواتا، بل مفاهيم وطريقة تفكير[ينظر لأهمية اللغة في مظانها]،وهذا ما شاهدناه ويعدّ تدهورا وانتكاسة وتراجعا جليا منذ أكثر من عقدين من الزمن، فكانت النصوص المختارة تُنعش الهمّة وتُربي على الشجاعة الفكرية وتعتني بالفكرة الراقية وتجذب الطالب إلى أمته من خلال نصوص الفطاحل من أمثال عبد الحميد ابن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي رحمهم الله وغيرهم من أدباء وشعراء الجزائر وكتّابها ومفكريها، وحتى من غيرهم من الأمة الإسلامية والعربية، بل من مفكري العالم العقلاء، – وهنا لا أدعو إلى إحياء القومية العربية التي كانت تفرق المجتمع وتقسِّمه وتشتته- ، فكانت تحمي الشعور الجمعي الوحدوي وتبني فيه العزة والكرامة، بل كانت الفقرات والنصوص المختارة في الابتدائي والمتوسط تثير الإعجاب من خلال تناولها يوميات وبيئة الطالب بأسلوب رائق ومحبّب مشوّق تجعله يقلد بداية ثم يبتكر في التعبير الشفاهي والكتابي، والمحفوظات التي تنشد في لحن شجي جامع يثير كوامن التحفيز والرضى النفسي والتطلّع سواء بقادة الثورة والمجاهدين أو غيرهم من العظماء…، لكن تدريجيا تم التغيير ولكن بنصوص وبدائل قضت على ذلك الأثر وتلك التربية والتنشئة التي هيأت أجيالا أعمارهم بين الستين والسبعين معتزين بوطنهم ويئنون تحت وطأة ما يرونه من ذوبان لفلذات أكبادهم في غياهب المسخ!. أما مادة التاريخ فالأمر أمرُّ، يدرس الطالب العصور الحجرية و ما قبل التاريخ في مرحلة المتوسط(12سنة) والطفل مازال طريا لا يستوعب ذلك في هذا السن، أمّا في الثانوي فمعامله منخفض مقارنة بالدول التي تهتم بتاريخها لبناء أمة واحدة متراصة منصهرة، أما الاهتمام بتاريخ الثورة التحريرية و القضية الفلسطينية مثالا فقد انحصر في حفظ بعض الشخصيات والمعارك المحدودة، أما تاريخ الثورات والسيرة النبوية فلا ذكر لها مطلقا، فكيف ينشأ جيل منفصم عن وطنه وكيف ننتظر منه الدفاع عنه؟.
ومن أهم ما يجعلك حيران عدم اكتمال المقررات السنوية وتكاد في جميع السنوات والمواد و إن اكتملت بالحشو والقص والتكييف التعسفي، أين السبب؟، ماذا عملت لجان الإصلاح؟، هل استشير أهل الخبرة والتجربة والاختصاص؟، والـمشاهد لكل الكتب المدرسية التي طبعت في (2008م) آخر تغيير لها حدثت فيها أخطاء في طبعها ولم تصحّح لحد الساعة رغم النداءات المتتالية، فأين الهيئات المسؤولة عن ذلك؟، و إن تكلّمنا عن منهجية إدخال اللغات فالأمر معتلّ، والزحف نحو الأمام هو الأمر الواقع وسنجد أنفسنا أمام أجيال معتوهة لغويا وانظر مشاركاتهم في التعابير والمقالات والتواصل الاجتماعي والحوارات التلفزيونية واللقاءات في المسابقات.
أما ما تشيب له الولدان فهو وأد الفروع (الشعب)التقنية في الثانوي وما تمثله من ركيزة لتكوين إطارات المستقبل لنؤسس لعقول مبدعة مخترعة ناهضة بالمشاريع العملاقة الاقتصادية لتخرج الأمة من التبعية والذيلية الصناعية، إنّ الاهتمام بالمخابر والنشاطات العلمية في المراحل التعليمية وتوفير الوسائل المناسبة والكافية يحبب فيها الطالب وينشئ جوا تنافسيا ليفجر الابداع الكامن في أفراد أجيالنا، هذا وغيره يؤسس نظاما تعليميا رصينا دائما ومستقرا ومنتجا.
– إنّ من أهم نجاح للمنظومة التربوية في بنائها وإصلاحها هو الاهتمام بالأستاذ المربي من خلال شروط قبوله وتكوينه تكوينا يكفي لأداء المهمة الرسالية، فالملاحظ أنه الميدان الوحيد الذي يقبل من همّ ودب مهما كان مستواه العلمي والتأهيل النفسي بل ما دام الاختيار على أساس الشهادة وفقط وهذا غير كافٍ لتولي تربية النفوس والعقول وتخريج أجيال تحفظ للأمة كينونتها تحصينا من كل الاختراقات، بل الأصل أن تكون معاهد تخصصية، وهنا نطرح سؤالا لماذا أغلقت المعاهد التكنولوجية لتكوين الأساتذة والمعلمين للابتدائي والمتوسط وحتى وإن استبدلت بالمدارس العليا المتخصصة لكل المواد (3سنوات تكوين للابتدائي، 4سنوات للمتوسط، 5سنوات للثانوي)، لماذا لا تنحصر الاحتياجات إلا في التكوين المتخصص؟، ولماذا غالبية المقبولين من خارج هذا الإطار؟، إنّ ما نراه من احتجاجات وهدر للوقت وللجهود وعدم اكتمال للبرامج الدراسية، يرجع في نظر المتابعين إلى عدم تفعيل المشاركة الشورية للأساتذة والمعلمين الذين هم في الميدان وهم من يعيشون لحظات التغيير ومعاناة المسؤولية ويعرفون الاحتياجات الضرورية المادية والمعنوية، فالمخطط والمسير الإداري البعيد عن الساحة والذي لم يجرّب القسم لا يمكنه أن يتصور الحال على حقيقته، فالحل المرضي والطريق الصائب هو صدق الحوار الجاد والاستفادة من كل الاقتراحات مع توفير الجو الملائم وأهمه الدعم المعنوي الذي ينمي الثقة المتبادلة ويحفظ الكرامة والاعتزاز بالمهمة المبني على القيمة الفكرية وإحاطتها بالمقابل المادي الذي يمكن من الخروج من الفاقة والاحتياج مما يغلق أبواب التهاون والرفض والإساءة ، وأن تكون القوانين الناظمة مشجعة على التنافس على الأداء الأفضل، ويعطي لكل ذي حق حقه دون مواربة.
إنّ أمتنا تحتاج للاستقرار، ولن يتحقق بالأيدي المرتجفة التي تفوت الفرصة تلو الأخرى، فالتاريخ وحقائقه والعقل والانصاف كل ذلك يدفعنا للاجتماع والتوحّد والالتفاف حول مشروع وطني يجمعنا ضمن الثلاثية الخالدة للجمعية (الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا) ولن يتحقق كل هذا إلاّ في ظل الأمن المادي والمعنوي النفسي للجميع لكي يحسّ كل واحد منّا بمكانته ويتفانى في خدمة مجتمعه الذي هو جزء منه، و لقد شرح علامتنا الشيخ ابن باديس رحمه الله ذلك ببيان رائع في مقالة تاريخية “الوطن والوطنية” وهي درس لمن يراجعها، إنّ المسؤولية عظيمة وحساسة جدا وتهمّ جميع الأطراف من مسؤولين ومفكرين إلى أولياء التلاميذ وإطارات التربية في جميع المراحل وعلينا بإبداء الرأي كل في حدود مسؤوليته وتجربته فالوطن وطننا والأجيال مستقبلنا .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com