مساهمات

استذكار مآثر الشهداء الأبرار والمجاهدين الأطهار

ابن ادريسو مصطفى/

إن أعظمَ ما يحمل الإنسانُ في جسده، نفسُه التي بين جنبيه، وأغلى ما يفدي به الإنسانُ إخوانه ومحبيه، روحه الزكية، فيموتُ ليعيش غيرُه، ويرحلُ ليسعد مَن بعدَه، وفاعل هذا الأمر الجلل يسمى: الشهيد، المشتق من الشهادة، التي تعني تأكيدَ خبر ما، ومنه الشهيد: الذي يبذل حياته في سبيل الله، يقول تعالى: {وَمَنْ يُّطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيئِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}.
وتزداد قيمةُ الشهادة، والتضحيةِ بأعز ما يملكه الإنسان، حينما تأتي هذه الشهادة بعد تعرض صاحبِها لمعاناة شديدة، وتعذيب وحشي، ومشقة لأيام ذوات العدد.. ولذلك فإن الشهداءَ أعظمُ شأنا عند الله، وأعز الخلق لديه، إن ماتوا في سبيله، ولأجل إرضائه تعالى، وكان مقصدُهم دحض الباطل، وإبعاد الظلم، والدفاع عن أوطانهم، ورفع راية الإسلام خفاقة، وإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض، والانتصار على الكافرين، يقول تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيءٍ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّـيُّونَ كَثِيرٌ، فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمُ إلآَّ أَن قَالُواْ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتَ اَقْدَامَنَا، وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَئَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا، وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.


أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيءِ قَالَ: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا؛ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ».
ولا يسع المرء إلا أن يفتخر بأمته الجزائرية التي ضحت بنماذج مشرقة من الشهداء الذين سبَّلوا حياتهم، وقدموا أعز ما يملكونه في سبيل نصرة الحق، وإبعادِ الظلم عن أهلهم، وجاهدوا لإبعاد الغاصبين الفرنسيين عن حمى وطنهم الجزائر الغالية، وقهرِ الكافرين المعتدين على أراضيهم لأجل إنعاش حياتهم الاقتصادية، واستقرار كراسيهم السياسية، واتباعا لموضة التكالب الاستعماري الغاشم للأقوياء على بلاد الضعفاء؛ من أمثال البرتغاليين، والإسبانيين، ثم البريطانيين، ومن بعدِهم الإيطاليين والألمان والروس وغيرهم من الكلاب الجشعة الطامعة في خيرات الأبرياء.
ومن دواعي الفخر أيضا أن يعتز المرء بالأمهات الجزائريات المؤمنات الصادقات، اللواتي ولدن أطفالا، وشبابا، ورجالا، ونساء، ورعينهم على حب الاستشهاد في سبيل الله تعالى، وفي سبيل عزة أوطانهم المستباحة حرمتُها، فكانت هناك أعدادٌ ضخمة، لا يعلمها إلا الله تعالى، طيلة قرن ونصف قرن من الزمن، من الشهداءِ ذوي الأنفس الزكية، وأهل الإيمان الراسخ بالله تعالى، والتقوى للجليل في السر والعلن، فرحمهم الله تعالى، وأجزلهم بالنعيم الخالد، مصدقا لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسِبَنَّ الذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاَم بَلَ اَحْيَآءٌ عِندَ رَبـِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمُ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُومِنِينَ}.
ويقول رسول الله عن المجاهد وعن الشهيد، فيما رواه أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ».
وبعد هذه الروح الطيبة من المستشهدين في سبيل كرامة الجزائر، على الأحياء أن يصارحوا أنفسهم، هل تم الحفاظ على رسالة الشهداء الأبرار؟ وهل امتثل الخلف للمبادئ المحرِّكة للمجاهدين الأبطال في الوغى بدون كلل ولا تلكؤ؟
إن الجواب عن الأسئلة السابقة صعب للغاية، وإن تحليل مواقف الحياة اليومية للجزائري أمر لا مفر منه، لأجل تقويم مسارات حياتنا اليومية، وتوجيهِ الأنفس للبناء والحزم في التضحية، ولذلك فإن المسؤولية الملقاة على عواتقنا عظيمة، وهي تبدأ من الآتي:
– علينا جميعا أيها الجزائريون أن ندرك أن دماء الشهداء الزكية، ونضالَ المجاهدين في الوغى، وهم يتلقون وابلا من الرصاص والقنابل، وأرواحهم بين الحياة والموت، تستوجب عملا شاقا للجزائريين لأجل تطوير حياتهم اليومية للأفضل، وتقتضي عزيمةً صادقة في تحرير البلاد من التبعية الاقتصادية والثقافية والتربوية والسياسية للدول الشرقية أو الغربية، وتستوجبُ الاستقلال من كل إملاءات الأقوياء على الضعفاء.
– وعلينا أيها الجزائريون أن نفهم أننا إن تفانينا جميعا في تحقيق المقاصد العالية التي استشهد لأجلها الأبرار، واجتهدنا جميعا في سبيل وحدة صفنا، وتوحيد جهودنا، وتعزيز مقومات وطننا، فلن نبلغ معشار ما قدمه الشهداءُ من أجل استقلال بلدنا.. فكيف إن كنا على غير هذه النية والعزيمة! وكيف إن كنا نطالب بالحقوق ولا نحاسب أنفسنا على الواجبات، وكيف إن كنا نتكالب على المناصب والإتاوات أضعاف مضافعة ما نجدُّ ونكد في أداء رسالة الأجداد.
– وعلى المواطن المؤمن الغيور أن يدرك أن الواجب الشرعي يحتم عليه أن يرفع رايةَ العلم خفاقةً في وطننا، ويعملَ مجدا ومضحا بكل عزيز لديه، لا لشيء إلا لأنه ينتمي إلى بلد لم يكن ليُحقق وجودَه لو كان فيه الانتهازيون فقط، وأصحابُ المصالح الضيقة، وذوو الواسطات وتقديم الأعراش الفلانية على غيرها. وإنما الجزائر قطعةٌ قدسية من أرض رب العزة الواسعة، وقيمتُها تقدر بقيمة العاملين المجدين في كل الحقول والميادين، وتُقوَّم بقدر ساعات التضحية في سبيل تطوير الوطن.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com