شباب ميديا

الدكتور عبد القادر فضيل.. صانع هوية المدرسة الجزائرية

إعداد: عبد الغني بلاش/

في وقت تعيش فيه الجزائر على وقع الإضرابات الطلابية التي تثير تساؤلات حول مستقبل التربية الوطنية، يستحضر التاريخ شخصيات صنعت مجد المدرسة الجزائرية، وكان لها دور في حماية هويتها. من بين هؤلاء الدكتور عبد القادر فضيل، الرجل الذي صنع ذاكرة الأجيال الجزائرية من خلال كتبه التعليمية التي شكّلت الأساس الأول لمعرفة الحروف والكلمات. لم يكن طريقه مفروشًا بالورود، فقد وُلد في بيئة بسيطة، وواجه تحديات عديدة في مسيرته التعليمية، لكنه استطاع أن يكون أحد رموز إصلاح التعليم في الجزائر بعد الاستقلال، وترك إرثًا لا يزال حاضرًا حتى اليوم.

النشأة والبدايات الأولى..
وُلد عبد القادر فضيل عام 1932 في منطقة ريفية تقع بين الشلف وتنس، في أسرة بسيطة كان والدها معلمًا للقرآن الكريم. بدأ تعليمه الأولي في المسجد، حيث تعلم القرآن الكريم وحفظه كاملًا في سن 16 عامًا، وكان التلميذ الأصغر في الجامع الذي درس فيه. لم يكن في قريته مدارس نظامية، مما جعله يتنقل بين المدن بحثًا عن فرصة للدراسة.
في زمن الاستعمار الفرنسي، لم يكن التعليم متاحًا للجزائريين إلا بشروط مجحفة، وكان الهدف هو فرنسة المجتمع الجزائري وطمس هويته. لكن شغفه بالعلم دفعه إلى تحدي كل الظروف، فانتقل إلى سيدي عكاشة، حيث التقى بشيخ يُدعى أحمد بن هني، والذي ساعده على الالتحاق بمدرسة قرآنية لمواصلة تعليمه.

الهجرة في سبيل العلم…
لم يكن عبد القادر فضيل طالبًا عاديًا، فقد كان يسعى دائمًا لتوسيع معارفه، وهو ما دفعه إلى التنقل بين عدة ولايات، من تلمسان إلى وهران، ثم قسنطينة، وأخيرًا العاصمة الجزائرية. خلال هذه الرحلة، كان يعمل في الزوايا والكتاتيب لتأمين نفقات دراسته.
وفي عام 1961، وبينما كان في وهران، سمع عن دورة تدريبية لتكوين المعلمين في العاصمة، فقرر الالتحاق بها، رغم الظروف الأمنية الصعبة التي فرضتها الثورة التحريرية. بعد اجتيازه للدورة، بدأ مسيرته المهنية كمعلم، وهو ما كان حلمًا كبيرًا له، حيث رأى أن التعليم هو السبيل الوحيد للحفاظ على الهوية الجزائرية التي حاول الاستعمار طمسها.

المسيرة الأكاديمية… من المعلم إلى الدكتور
لم يكتفِ عبد القادر فضيل بشهادة التكوين، بل كان طموحه أبعد من ذلك. التحق بالجامعة الجزائرية بعد الاستقلال، وحصل على شهادة الأستاذية في التدريس، ثم شهادة الإدارة والتفتيش، وبعدها شهادة ليسانس في الفلسفة من الجامعة المركزية. لم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل سافر إلى القاهرة لمواصلة دراسته العليا، وهناك بدأ البحث في موضوع «التخلف الدراسي»، والذي كان موضوع رسالته للدراسات العليا. بعد فترة طويلة من البحث والتدقيق، حصل على شهادة الدكتوراه عام 1972.

تأليف كتب القراءة… بناء هوية المدرسة الجزائرية
بعد الاستقلال، كانت الجزائر بحاجة إلى مناهج تعليمية جديدة، تعكس الهوية الوطنية، وتبتعد عن التأثير الفرنسي. وهنا جاء دور الدكتور عبد القادر فضيل، الذي تم تكليفه بالإشراف على تأليف كتب القراءة للمرحلة الابتدائية.
كان يعلم أن الأطفال الجزائريين بحاجة إلى طريقة مبسطة لتعلم اللغة العربية، لذلك حرص على اختيار كلمات وأسماء سهلة النطق، مثل ليلى، عمر، مصطفى، ونورة، وهي أسماء تنتهي بحروف مدّ، لتكون مريحة عند النطق والتعلم. كما تضمنت الكتب قصصًا قصيرة تعكس البيئة الجزائرية، مثل «الطفل في الصحراء»، و»سعاد في المدينة»، إضافة إلى دروس تهدف إلى ترسيخ القيم والأخلاق.
هذه الكتب لم تكن مجرد مناهج تعليمية، بل كانت مشروعًا وطنيًا هدفه تعزيز الهوية الجزائرية بعد عقود من الاستعمار الثقافي. ونتيجة لذلك، أصبحت كتب القراءة الخاصة به مرجعًا أساسيًا للأجيال الجزائرية، وتركت بصمة لا تُنسى في الذاكرة الجماعية.

الندوة الوطنية للتعريب.. لقاء تاريخي مع الرئيس هواري بومدين
في عام 1975، نظمّت الجزائر الندوة الوطنية للتعريب، في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين. كان الدكتور عبد القادر فضيل أحد أبرز المشاركين فيها، بل تم تكليفه برئاستها، بعد أن قدم تقريرًا شاملًا حول ضرورة تعريب التعليم.
عندما التقى بالرئيس بومدين، قال له الأخير: «أنتم الآن تشرفون على شيء فكرنا فيه، لكن لم نصل إليه، وها أنتم وصلتم إليه.» هذه الكلمات كانت بمثابة دعم معنوي كبير له، وزادت من عزيمته على مواصلة الدفاع عن اللغة العربية في التعليم.

معارك الهوية وصراع الإصلاحات…
بعد رحيل بومدين، دخلت الجزائر في مراحل إصلاحية متتالية، كان بعضها إيجابيًا، وبعضها الآخر مثيرًا للجدل. كان الدكتور فضيل من أشد المعارضين لبعض السياسات التي رآها تهدد هوية المدرسة الجزائرية، مثل إصلاحات بن زاغو (2000) وبن غبريط (2014)، حيث اعتبر أن هذه الإصلاحات أضعفت مكانة اللغة العربية، وحاولت إدخال الفرنسية كلغة تعليم أساسية. كما انتقد إلغاء سياسة تكوين المعلمين، واعتبر أن إضعاف تكوين الأساتذة كان أحد أسباب تراجع مستوى التعليم في الجزائر. ورغم محاولات تهميشه، إلا أنه ظل صامدًا، مدافعًا عن مبادئه إلى اليوم.

الحرمان من السكن.. ثمن المواقف الصلبة
رغم المناصب العديدة التي شغلها، إلا أن الدكتور فضيل لم يحصل على سكن وظيفي، وهو ما اعتبره أحد أسوأ لحظات حياته. فقد كان يتوقع أن تكافئه الدولة على مجهوداته في خدمة التعليم، لكن العكس حدث، وتم تهميشه لأنه رفض الخضوع لضغوط سياسية.

التكريم المتأخر وإرثه التعليمي..
ورغم كل ما مر به، إلا أن أعماله لا تزال حاضرة في ذاكرة الجزائريين. ففي سن الـ 92، لا يزال يُستدعى للمشاركة في الندوات والمؤتمرات، ويتم تكريمه على مساهماته الكبيرة في تعريب وتطوير التعليم في الجزائر.
لقد ترك الدكتور فضيل إرثًا تعليميًا يمتد لعقود، وكان له الفضل في تعليم ملايين الأطفال الجزائريين، الذين أصبحوا اليوم أطباء، مهندسين، صحفيين، وقادة في مختلف المجالات. إن قصة نجاح الدكتور عبد القادر فضيل ليست مجرد حكاية شخصية، بل هي درس لكل من يسعى إلى بناء مستقبل أفضل رغم الصعوبات. لقد أثبت أن العلم هو السلاح الأقوى، وأن الدفاع عن الهوية لا يكون بالشعارات، بل بالعمل الجاد والإصرار. «لقد علمنا الدكتور فضيل الحروف الأولى، لكنه ترك لنا درسًا أهم: أن الهوية تُبنى بالعلم، وتُحمى بالوفاء.»

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com