شؤون تربوية

ركن تاريخ وتراث البيوتات العالمة بالجزائر – أسرة الشريف التلمساني –

د. عبدالقادر بوعقادة */

الأسر الشريفة ببلادنا عديدة عريقة، جاءت مع الفتوح واستقرت في المدن وتأسست عليها إمارات واحتفى بها العامة والخاصةـ… ولعل من أبرزها أسرة الشريف التلمساني العالمة التي أورد نسبها السراج في فهرسته فألحقها بــــــ» أبي محمد عبد الله بن أحمد أبو العباس بن علي بن يحيى بن علي بن محمد بن القاسم بن حمود بن ميمون بن علي بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب». مثلما أشار صاحبا الكفاية والبستان إلى أنّها أسرة تقوى وشرف ونباهة وبيت علم وصلاح.
رأس هذه الأسرة أبو العباس أحمد والد أبي عبد الله محمد، المحلّى بالجليل الوجيه والعاقل المبرّز، والمكنّي بالفقيه الشريف. أمّا عمدة البيت فهو ابنه أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف المولود عام 716ﻫ/1317م والمتوفّى سنة 771ﻫ/1370م، كان مهتما بالمعقول والمنقول، واعتبر آخر الأئمة المجتهدين حيث آلت إليه إمامة المالكية بالمغرب. وقد تحدث حفيده (أحمد بن أبي يحيى ت 895ﻫ/1490م) عن زهده وانقطاعه للعلم، والتزامه الكتاب والسنة، وأنه كان شديداً على أهل البدع منافحاً عن السنة.
تفقه الشريف أبو عبد الله بابني الإمام، فأخذ عنهما الأصول والكلام، كما أخذ عن الآبلي وعن أبي عبد الله بن عبد السلام، وقيل أنّ هذا الأخير أخذ عن الشريف تلخيص كتاب أرسطو لابن رشد، وعلوم أخرى كان يختص بها الشريف، وقد خلف لنا كتابا صغير الحجم كبير الفائدة سماه «مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول». وقد أفاض حفيده في ذكر شيوخه، أبي موسى عمر المشذالي وأبي عبد الله محمد بن عبد النور، ومحمد بن هدية القرشي وغيرهم .
يعتبر الشريف سليل مدرسة الآبلي المائل إلى النظر والحجة، القائم على الأصول والكلام، الجامع لكثير من العلوم العقلية والنقلية والقديم منها والحديث، وقد كان الآبلي ومجموع علماء إفريقية يقدرنه تقديراً عظيماً، فحينما علم ابن عرفه بوفاته قال:» ماتت بموته العلوم العقلية». وأمّا علماء الأندلس فطالما قدروا مكانته، فهذا لسان الدين بن الخطيب كان كلما ألَّف مصنفاً بعث به إليه ليخطّ عليه بيده لجلالة علمه وعلو قدره، وأمّا شيخ الأندلس ابن لب فكان إذا أشكل عليه سؤال بعث به إلى الشريف يطلب منه التوضيح والبيان، وأكّد ابن مرزوق الحفيد علو كعبه قائلاً: « هو أعلم أهل عصره بإجماع «. مثلما كان حفيده أحمد بن أبي يحيى ت 895ﻫ/1490م يشيد بإلمامه بمذاهب الفرق، وخوضه في إزاحة الشُبه، وفقهه للسان العرب، معتبرا إيّاه آية في البيان ميالا إلى الشعر والأمثال وأخبار الأمم والصلحاء، عارفا بالمنطق وشارحا لجمل الخونجي، مثلما كانت له دراية في المغالطات و القضاء و القدر.
استمر البيت في أبناء أبي عبدالله الشريف وأحفاده موصوفا بالشرف والعلم، فكان منهم ابناه عبد الله أبومحمد(748-792ﻫ/1348-1390م) وعبد الرحمن أبو يحيى (757- 826ﻫ/1356-1423م). حيث كان عبد الله أبو محمد الشريف بن محمد بن أحمد ( 748ـ-792ه ) أحد أبرز علماء هذا البيت المحلّى بالإمام العلامة والمحقق المتقن والحجه النظار، أخذ منهج أبيه «محمد أبو عبد الله» الشريف( ت771ﻫ)، فاهتم بالأصلين والجدل والمنطق والطبيعيات والتصوف، وازداد اهتماماً بالمنقول والمعقول حينما أخذ عن الخطيب أبن مرزوق والفقيه أبي عمران العبدوسي وأحمد القباب والحسن الونشريسي. وكان يهتم بإقراء الموطأ والتهذيب وكتاب ابن الحاجب الفرعي في الفقه، واعتنى بمؤلفات الغزالي ككتاب المقاصد وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد وشفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل بالإضافة إلى المحصل للفخر الرازي وابن الحاجب الأصلي ومفتاح الوصول لأبيه، وهي كتب كانت تشكل نواة المنظومة التعليمية في مستويات متقدمة بتلمسان وفاس. كما تحضر كتب الجدل ككتاب المقترح للباروني وهندسة إقليدس وجمل الخونجي في المنطق والميزان للغزالي، وقد كان أبو العباس أحمد بن موسى البجائي يقول بشأنه «لا يوجد اليوم من يرحل إليه في هذا البلد مثل شيخنا أبي محمد لغزارة علمه وسهولة الإلقاء وخفض الجناح».
كان منهجه اعتماد النقل والنظر والتحقيق، وربما كان الابن أشد استمساكا بالتحقيق والاستبصار، ممّا دفع بالبعض من الذين درسوا عن الابن والأب إلى الإشادة بالابن عبد الله بن محمد الشريف لِحُسن تقريبه وتبسيطه. وقد خلَّف هذا العلم (عبد الله بن محمد بن أحمد الشريف) عَلَماً آخر هو محمد أبو عبد الله الشريف، والذي حلاّه القلصادي في رحلته بشيخنا الفقيه الإمام الصدر والعالم الحسيب الأصيل، وذكر بأنّه قرأ عليه جملة من التصانيف كمفتاح الوصول للشريف والتسهيل لابن مالك وجمل الخونجي وتنقيح القرافي،
تقلد المرتبة الرابعة لهذه الأسرة الشريفة الإمام المفسر النظار عبد الرحمن أبو يحيى الأخ (757 – 826 ﻫ) العلامة المحقق، الحجة النظار المعدود من علماء الظاهر والباطن. ويذكر صاحب المناقب أنَّ أباه بشَّر به في منامه وهو في بطن أمه، مثلما تفيد المصادر أنّ تسميته تعود إلى عالمين جليلين هما أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون (ت 808ﻫ/1406م) والفقيه القاضي أبو يحيى بن السكّاك. كانا حاضرين ليلة ولادته، فسمي بهما إكراماً لهما وتيمناً بهما. وقد تأثر بأبيه العالم أبي عبد الله محمد الشريف، حيث أخذ عنه العلوم العقلية والنقلية، وحينما توفي أبوه اعتمد العلم عن أخيه عبد الله الذي يفوقه سناً وعلماً،
وقد سجل لنا ابنه أحمد صاحب المناقب(ت895ﻫ/1490م) عديد الكتب التي أخذها عن أبيه وأخيه، مما جعل هذه الأسرة تتصدر مدرسة تلمسان فترة من الزمن، منذ الجد والأب إلى الحفيدين فالأبناء، حتى قال أحد الفقهاء «حضرت مجالس العلماء شرقاً وغرباً، فما رأيت ولا سمعت مثل أبي عبد الله وولديه»، فقد شكل هؤلاء سلسلة ذهبية في أداء العلوم النقلية و العقلية على وجه التحديد، كان أحدهم يجلس مكان الآخر في حياته.
وكان ممن أخذ عن أبي يحيى عبد الرحمن العالم ابن زاغو وأبي عبد الله القيسي، باعتبار أنه بلغ الغاية في العلم والنهاية في المعارف الإلهية. وقد حلاَّه الأوائل بالإمام الأوحد «شريف العلماء وعالم الشرفاء» وآخر المفسرين من علماء الظاهر والباطن. والجدير بالإشارة أنّ الأمير الفاضل الكامل أبو زيان محمد ( 796- 805ﻫ/1394-1403م) اصطفاه لمشيخته، واختاره لنفسه، فتعلم عليه أصول العلم وفنونه، وأسانيده ومتونه جليه ومكنونه، وقرأ عليه عدَّة مصنفات. ثم ورثه في الإمامة والعلم ابنه أحمد( ت895ﻫ) صاحب مخطوط مناقب سيدي أبي عبد الله الشريف وولديه. ويظهر أنّه كان ذا مكانة مرموقة في الفقه، حيث برز فقهه وعلمه من خلال ما وقع بينه و بين ابن مرزوق الحفيد، من جدل و مراجعة حول مسائل أوردها الونشريسي في المعيار. ولكي لا يختلط على أذهان الناس موضوع الأسر الشريفة نقول بأنّه تشبه هذه الأسرة في شرف النسب والعلم بتلمسان أسرة أخرى تحدثت عنها المصادر وهي أسرة»محمد أبو عبد الله الشريف التلمساني» المعروف بحمو الشريف الفقيه القاضي الذي كانت وفاته سنة833ﻫ/1430م، وهذا ما يثبت حضور العلم والشرف ببلادنا، ويوجب العناية بهذا المعطى الفريد القيمة العميق الأثر في تاريخ الشعوب والأمم.

* جامعة البليدة 2-

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com