قضايا و آراء

أبناؤنا بين ضرورة التعليم وإلحاح الإيديولوجيا

أ. عبد القادر قلاتي/

أقرّ بداية أنّني لا أعرف حقيقة ما يحدث بالدّقة، فيما يتعلق بمجريات الأحداث في أروقة الوزارة الوصيّة على تعليم وتربية أبنائنا، لأنّنا في بلد يكثر فيه التحليل والقراءات المختلفة والمتعددة والمتضاربة، وتقلّ فيه مصادر الحقيقة، رغم أنّنا نشاهد ونعيش مخرجاتها، فنسمع عن القضيّة الواحدة عشرات الوقائع التي تتصل بهذه القضية، لكنها لا تصمد كثيرًا أمام الواقع إذ سرعان ما يثبت تهافت هذه الأخبار وعدم مصداقيتها، لتتحوّل هذه القضيّة إلى حالة من غبش الرؤية وعدم القدرة على فهم ما يجري حتى عند من يملكون أدوات التحليل والفهم والمعرفة بالواقع الجزائري في أدق تفاصيل السلوك السياسي للدولة والمجتمع، والنخب.
في هذه الأسطر أحاول الوقوف أمام قضية شغلت عموم الأسر الجزائرية -خلال الأسبوع الماضي -، كما شغلت بال رجال التربية والتعليم، وأيضا الصحافة الوطنية التي تناولت الموضوع بالتفصيل؛ فقد أدهشنا -جميعا – خروج تلاميذ الثانويات في الكثير من ولايات الوطن في مظاهرات وإضراب عن الدراسة، دون أن يعرف الجميع كيف حدث هذا ومن يقف أمام هذا السلوك الجديد في المجتمع الجزائري، حيث كانت الاستجابة سريعة من طرف التلاميذ، في غياب الأولياء والمؤسسات الممثلة لهم أمام الهيئات الرّسمية، فمن المعروف أنّ التلميذ لا يطالب بحقوقه بنفسه؛ لأنّه يستند إلى عائلة تقف إلى جانبه وهي المسؤول الأول عنه أمام مؤسسات الدولة؛ فمن يطالب بحقوقه هي العائلة، وذلك من خلال جمعيات أولياء التلاميذ التي تصاحب المؤسسات التربوية في تيسير العمليّة التعليميّة والتربويّة، وتمارس حقها من خلال قوانين رصدتها الوزارة الوصيّة لهذه المؤسسات لتيسير عملها وحضورها الدائم أمام المشاكل التي تعيق العمليّة التعليميّة والتربويّة.
إنّ ما يفسر هذا السلوك الجديد في عالم التربية والتعليم يعطي إشارة واضحة على أدلجة هذا المجال الحيوي، والعبث بمستقبل أبنائنا انطلاقاً من خصام ايديولوجي قديم يتجدّد كلّما دعت الضّرورة لذلك، فالصراع بين التيارات الفكريّة التي ارتبطت بالتربيّة والتعليم لم يتوقف إلاّ في فترات قليلة من تاريخ الدولة الوطنيّة، ومبعث هذا الصراع كما هو معلوم للقاصي والداني، هو حالة الانشطار التي عرفها المجتمع الجزائري أثناء الاستعمار الغربي، في الرؤية إلى المسائل المتعلقة بالهوية الثقافية والانتماء للدائرة الحضارية، حيث تبرز الخصوصيات المعبرة عن الذات عند نخب وفئات اجتماعية، وتخفت عند آخرين لأسباب سوسيولوجية وانثروبولوجية معلومة للدارسين، وعندها تتحوّل الساحة الثقافيّة والفكريّة إلى جماعات متضادة يحتمي بعضها بالسلطة الحاكمة، بينما تختار جماعات أخرى الاحتماء بالتراث الفكرية والحضاري تحصينًا للذات وبحثا عن مواطن القوة والصلابة لمواجهة التيارات المخالفة، وهي جدلية صعبة التفكيك والقراءة، لتلبسها بالروح الايديولوجية، حيث تغيب لغة الحوار، وينتصر خطاب المماحكات الايدلوجية، لتتحوّل كلّ المجالات الاجتماعيّة -بما فيها مجال التربية والتعليم – إلى صراع وجوديّ يخسر فيه الجميع، ولا يفوز فيه تيار على آخر، والخاسر الأكبر هم أبناؤنا التلاميذ الذين لا يدركون من حقيقة هذه المعركة إلاّ عناوين وهميّة تترجم جملة من المطالب التي يدركها المجتمع (جمعيات أولياء التلاميذ) ورجال التربية والخبراء، أيعقل أن يقف التلميذ أمام مؤسسات الدولة مطالبا بحقوقه، مضحيا بدراسته، من أجل صراع خفيّ لا نعلم من يقف وراءه، ولا نعرف أهدافه ومراميه؟.
إنّ هذا السلوك المؤدلج الذي أصبح واقعًا نعيشه وعشناه خلال الأسبوع الماضي، يُنذر بخطر كبير لا يمكن السكوت عنه، لأنّه ببساطة تجسيد لثقافة الخروج عن الحماية الأسرية للتلميذ، الذي من خلال هذا السلوك سيتحوّل إلى ورقة سياسيّة/ايديولوجية، تستحضر عند أي خلاف سياسيّ جذريّ أو طارئ، فعلينا أن ندرك هذه الحقيقة -نحن الأولياء – ولا نسمح أبدا بتكرار هذه السلوكات الغريبة عن مجتمعنا. والله المستعان.

guellatiabdelkader@gmail.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com