كلمة حق

على هامش رحلة بوحنيفية

أ د. عمار طالبي/

زارني أثناء إقامتي في حمام بوحنيفية مركز الراحة للمجاهدين الشيخ الفقيه الأستاذ بن حنفية. العابدين مع الشيخ رئيس شعبة جمعية العلماء لولاية معسكر حفظهما الله ورعاهما.
أهداني الشيخ الفاضل كتابا من تأليفه، عنوانه «فقه الأدلة المتعارضة» أي أدلة الكتاب والسنة، وذلك يوم الاثنين 13 رجب 1446هـ الموافق لـ 13 جانفي 2025م.
وأشاد في مقدمة الكتاب إلى أنه «قد عظمت جناية التعصب للمذاهب، والانتصار للآراء والأهواء، واتباع الشبهات على نصوص الموحدين» (ص2)، فالدين كله يرجع إلى الكتاب والسنة، إلا أن التعارض الظاهري بين النصوص كان له أمر بالغ على اختلاف المجتهدين في استنساخ الأحكام الشرعية منذ عهد الصحابة إلى اليوم (ص5)، فأنت تلاحظ اختلاف العلماء لا يخلو منه باب من أبواب الفقه ومسائله، وهذا أدى إلى فتنة متبعي الشبهات من الأدعياء في الخوض والنصوص، ومنهم يرمي إلى هدم الدين، ويدل ما ذهب إليه الشاطبي إلى أن الناظر في الشريعة عليه أمران أن ينظر إلى الشريعة بعين الكمال، وأن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأحاديث النبوية، ولا أن أحدهما يعارض الآخر.
وذهب إلى أنه نظرا إلى ما يبدو من التعارض بين الأدلة له أهمية في الاستنباط، وسبب من أسباب الاختلاف، فإنه اتجه إلى جمع مجموعة من النصوص التي تيسرت له مع شيء من فقهها وبيان مذاهب العلماء في ذلك (ص8).
هذا الذي انعقد عليه عزمه، ورضيت على اقتحامه نفسه (ص8) ولما كان هذا الموضوع مترامي الأطراف، ومن الصعب الإحاطة به فإنه اقتصر على كتابة طائفة منها، مع طرق معالجتها بذكر نماذج من ذلك كله، وذكر ما ألفه العلماء في ذلك بداية من الإمام الشافعي صاحب الرسالة. كتب المسودة الأولى لما كان بالعاصمة وفي مسجد كتشاوة سنة 1991، ثم نقحه بعد أن عاد إلى مدينة معسكر، ثم بعد ثلاثين عاما ألح عليه بعض إخوانه في أن ينشره، ولم يرغب أن يعيد النظر فيه، وقدم له بمقدمة ذات فصول ثلاثة. التعارض وأقسامه، وعناية العلماء به، وطرق معالجته، وناقش بعض الأمثلة التي جاء بها تطبيقا للقواعد التي ذكرها.
ذكر مصادر كثيرة في بحثه هذا من المشارقة والمغاربة والأندلسيين، ولكنه لم يشر إلى ابن رشد الحفيد إلا مرة واحدة (ص102) وهو في كتابه هذا «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» يضرب أمثلة كثيرة، إذ أنه كتاب في الأصول أكثر منه كتاب في الفروع، كما صرح بذلك، وأنه ينوي أن يكتب كتابا آخر في الفروع، فهو قاضي القضاة له خبرة جيدة بمناهج المجتهدين، وسبب اختلافهم في الأخذ بالأحكام من القرآن ومن السنة، وذكر ابن حنفية في المقدمة ما عظم خطره «من التعصب للمذاهب والانتصار للآراء والأهواء واتباع الشبهات على نصوص الوحيين» (ص2).
ولم ينس أن يشير إلى شيخنا عبد الحميد بن باديس (ص170).
كما ذكر من مصادره المعاصرة كتاب «أدلة التشريع المتعارضة والترجيح بينهما» للدكتور بدران بن أبي العينين بدران، (ص11)، وكتاب الدكتور محمد الحفناوي «التعارض والترجيح وأثرهما في الفقه الإسلامي» (ص29)، كما أشار إلى الشيخ سعيد البوطي وانتقده، وإلى رشيد رضا وانتقده في قواعده (ص25)، واشتد في نقد الشيخ حسب الله (ص55).
يدل هذا الكتاب على مدى فقه شيخنا بن حنفية لهذه المشكلة، فهو ليس فقيها مرسلا لا يصل فقهه بأصوله، وبذلك فهو في هذا الكتاب أصولي وصاحب قواعد منهجية في الاستنباط، وقد جمع من هذه القواعد الأصولية التي لم يشر إليها الأصوليون إلا لماما، فهو سلفي لا بالمعنى الذي ظهر هذا العصر بمختلف أسمائها، لا ينفي العقل ولا يجمد على ظاهر النص، ويقول بالتأويل بمعناه الدقيق، وضرب لذلك أمثلة بالإمام أبي حامد وغيره، وإن كان لا يميل إلى تأويل الصفات، وما إلى ذلك من الغيبيات التي يريد بعض الناس تأويلها، وهو ما لا دخل للعقل فيه، فمصدر ذلك ما جاء على ألسنة الرسل.
وكم أضاع المسلمون عقولهم وأوقاتهم في المسائل الميتافيزيقية نقدا وإثباتا وافتراضا على غير هدى. ويمكن القول بلا ريب أن صاحبنا ليس مقلدا في كل ما ذهب إليه، بل له اجتهاد وترجيح واختبار، كما أنه لم يتعصب لمذهب فقهي معين، ويدافع عنه مثل ما فعل ابن رشد الحفيد في التزامه الموضوعية، والبعد عن نصرة مذهبه كما يفعل ابن قدامة الحنبلي، ووثق كل رأي بمصدره، وكل حديث بتخريجه، ونحن اليوم في أشد الحاجة إلى هؤلاء في اتخاذ المنهج العلمي السديد، والبعد عن الادعاء والتعصب الذي أدى إلى ترسيخ التقليد، وسد أفق الاجتهاد وضيق الصدر بما يكون من آراء تختلف عن رأيه، مما يؤدي إلى النزاع والخصام، الذي لا يليق بمن وهبه الله التفقه في الدين، والسداد في المنهج ووضوحه، وإتقان لغة القرآن ومقاصده، واللجوء إلى مجموع الأدلة في موضوعها، لا الأخذ بدليل منفردا عن غيره من الأدلة، وهذا ما ذهب إليه صاحبنا، ولذلك فنحن نهنئه بهذا الكتاب، وبما ذهب إليه من منهج علمي واضح، ولعل القراء من فقهائنا وغيرهم من طلبة العلم الشرعي يعنون بهذا البحث المتميز، والاهتمام به.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com