مقالات

رحلة طلب العلم : الوصول إلى دمشق..

أ.عبد العزيز بن السايب/

تَيَسَّرَ أوَّلُ سفر إلى دمشق مساءَ الخميس منتصفَ شهر سبتمبر 1988..كان شعوري كمن يَسيرُ مُتَحّمِّسًا..في غابةٍ يُغَلِّفُهَا الضبابُ، رَغْمَ تطمينات إخوةٍ، وتحذيرات آخرين..وهم الأكثر..
وأَذْكُرُ جيدا يوم وُصولي، فقد حُفِرَ في ذاكرتي حَفْرًا..إذْ هو فاتحةُ أسفاري خارج البلاد..وقد دنوت من 18 عاما من عمري..
سافرتُ مع بعض الإخوة الجزائريين..أكبرُنا سِنًّا وتجربةً الأخُ “عبدُ القادر الزَّاوِي” من تلمسان..وهو طالب في الشام منذ مدة، يدرس بمعهد حمص الشرعي..فله خبرة بالبلاد والعباد، صاحب أخلاق عالية، ومن الدعوات التي حفظتُها عنه كُلَّما ضايقه شيءٌ قولُهُ: “الله يحَسَّنْ أَخْلَاقْنَا”..
ومعه الأخ “مُرَاد بوطَاوِي” من العاصمة..الذي سيدرس في دمشق بمراكز التعليم الحاسوبي، وسبق له زيارة الشام..عَرَّفني عليهم الشيخ عبد المجيد بيرم..
والرحلةُ عَبْرَ الخطوط الجوية الجزائرية، وهي مُقَسمة على مرحلتين، الأولى من الجزائر العاصمة إلى “آثِينَا” باليونان، نتوقف قرابة الساعتين أو الساعة والنصف “إيسكال”، دون النزول من الطائرة، حيث يركب منها المتوجهون إلى دمشق عبر الخطوط الجزائرية..
لما انطلقنا من أثينا..قدَّموا لنا وَجْبَةً..وكان فيها بعض “السندويتشات” المثَلَّثة الشكلِ، وفي وسطها لحوم، مثل التي نراها في الأفلام الأجنبية..ولما تناولتُ بيدي واحدة لأَلْتَهِمَهَا..استوقفني الأخُ عبد القادر قائلا: ربما هذه الوجبة مُعَدَّةٌ في أثينا، وليس في الجزائر..وربما هذا اللحم ليس حلالا..فالأفضلُ عدم أكلها..فاستجبت لقوله ممتنا على النصيحة..
وهكذا السيرة في باقي الرحلات، كلما جاءتنا الوجبةُ من اليونان..فغالبُ الطلاب يَتَوَرَّعُون عنها..
ثم وصولنا إلى دمشق..وحَطَّت بِنَّا الطائرةُ في المطار وسط حُلكة ظلام الليل..وانتابني شعور يعِزُّ وَصْفُهُ..مَزِيجٌ من الفرحة والرهبة..
بعد استكمال إجراءات العبور الجمركي اجتمعتُ مع رفاق الرحلة..وكُنَّا مُحَمَّلِين بالحقائب الثقيلة . فقرروا استئجار سيارة “سُوزُوكِي”..وهي عبارة عن شاحنة صغيرة الحجم، لها صندوق كبير خَلْفِي مستطيل مفتوح..حيث رَصَصْنَا الحقائب..ولما كانت قمرة السائق مُعَدَّة لشخصين فقط؛ السائق وراكب بجنبه..فمن المستحيل أن تستوعبنا ثلاثتنا والسائق..والعادة أن يركب ثلاثةٌ في مقدمتها..فحُشرتُ مع الأخ الزاوي مع السائق..فقد أَصَرَّ الأخُ “مراد” أن يركب في المؤخرة، تبجيلا للأخ الأكبر الزاوي، وإكراما لي لأنها أول سفرتي..
جلس الأخ “عبد القادر” في الوسط ونصفُهُ ملتصق بي حيث كنتُ عن يمينه، ونصفه الآخر بالسائق..وعصى السرعة بين فخذيه..ويا لها من جلسة مُزْعِجَة..
أخبرني الرفاق أنَّ مَبيتَنا هذه الليلة عند طالب جزائري.. يقطن في حي “التَّضَامُن” الواقع جنوب دمشق..
انطلقت الشاحنةُ وسط طَقْطَقَتِها المزعجة، والدخان الأسود المنطلق من مؤخرتها..
وصلنا إلى البيت المنشود..فأنزلنا الحقائب الثقيلة قرب بيت الطالب الجزائري..وسط صمت رهيب في جنح ليل دمشق..
وبعد خروج الطالب من بيته والسلام عليه..انفرد به الأخ “عبد القادر” على بُعْدِ خطوات..يتكلم معه حول قضاء الليلة عنده..وأظن أن الأمر كان مُرَتَّبًا سَلَفًا..
لكنه اعتذر عن استقبالنا..لأسباب.. وكانت أَوَّلَ خَيبةِ أَمَلٍ!؟
وبعد تفكير دقائق وسط صمت ثقيل..قَرَّرَ الرِّفَاقُ تغيير الوجهة..وبعد مساومة جديد مع سائق شاحنة “السُّوزُوكي” الذي كان ينتظر انطلقنا على متنها نحو الاتجاه المعاكس..إلى الْمُعَضَمِية..مُعَضَمِيِّة الشام، للمبيت عند طالب جزائري آخر..
أصررت هذا المرة على الركوب في الصندوق الخلفي “للسُّوزُوكي”..فـ”مراد” أخذ نصيبه، والأخ “عبد القادر” أكبرنا، فمن الْمَعِيب جعله في الخلف.. وفشل الإخوة في محاولة جبري على الركوب في الأمام..بعد جِدَالٍ..فقد تحججت بالرغبة في تأمل سماء دمشق، والنظر في طُرقاتها، واستنشاق هوائها العليل..
وهكذا انطلقنا..لا أُخْفِيكُم خَوْفِي حين العبور ليلا في الطريق الموصل إلى المعضمية..خصوصا حين الركوب من الخلف المفتوح..فهي مُوحشةٌ..مُظلمةٌ.. فارغةٌ..جرداءُ..شبهُ خاليةٍ..تُشبه المناطق العسكرية، مع تكتلات ترابية على أطراف الطريق..
أوقفنا حاجزٌ أمني في الطريق..وأمرنا بإنزال الحقائب للتفتيش..وإخراج بطاقات التعريف “الهويات”..بغِلظة..ولم يكن الحاجزَ الوحيدَ..
لكن شهادةً لله..كُلَّمَا عرفوا أننا من الجزائر كانت معاملتهم تتغير إلى الحُسنَى..
بعدها فهمتُ أن للمنطقة خصوصيات أمنية..لأنها قريبة من “الجولان” المحتل من الكيان الصهـ//ـيوني..
بعد هذه المواقف..من الوصول ليلا..إلى الطريق المظلمة إلى التضامن..إلى اعتذار الأخ الجزائري عن إيوائنا أوَّل ليلة..مع الانطلاق نحو المعضمية وحال طريقها..وتوقيفات الحواجز الأمنية..كأنَّ النَّدَمَ بَدَأَ يَتَسَلَّلُ إلى فؤادي عن هذه السَّفْرَةِ ..
لماذا تركتُ بلدي..أسرتي..حَيي..مسجدي..أصدقائي..جامعتي..شيخي الغزالي.. وأقدمتُ على هذه المغامرة..إلى هذا المكان الموحش..الذي أجهله..رغم تحذيرات الأصحاب ومعارضة الأقارب..!؟
وصلنا إلى المعضمية..وهي منطقة أقرب إلى القُرَى..
وتوقفت “السزوكي” قرب مسجد..فالطالب الجزائري إمام فيه..
وإذ به الشيخ “عبد الناصر بُوطَاوي”، وهو الشقيق الأكبر لرفيقنا “مُراد”.. يسكن في المسجد الذي هو إمامه..واستقبلنا جزاه الله خيرا..فكان قَدَرِي أول ليلة في الشام المنام في مسجد من مساجدها..في الحدود المتاخمة للعدو الصهـ//ـيوني..
استيقظنا لصلاة الفجر..ونزلنا للصلاة مع الشيخ بوطاوي.. وتَهَيُّبُ المصلين من الإمام واضحٌ جدا..مع نظرات تعجبهم من هذه الوجوه الغريبة المرافقة فجرا للإمام..وتوقع الشيخُ ذلك، لذلك نَبَّهَنا لهذا الأمر قبل ولوج قاعة الصلاة حتى لا نُصدم من تلك النظرات..
وبعد الصلاة كان درس فقهي قصير..
ثم أخلدنا إلى النوم..فهَجعة قبل الفجر كانت قصيرة، مع تعب السفر مساء من الجزائر إلى اليونان إلى سوريا..
بعد الاستيقاظ أفطرنا فطورا جزائريا..الحليب مع القهوة والحلويات..ولأول مرة أرى الخبز السُّوري “الرغيف”..وأتذوق طعمه..استغربتُهُ.. خُيِّل إليَّ أنه عجين مُرَقَّق..”نصف طياب”..
ولما رآنا في الصبح أحدُ المصلين وهو أحد أصدقاء الإمام ووُجهاء المنطقة وعَرَفَ أننا ضيوف من الجزائر أَلَّحَ أن يكون غداؤنا عنده..بعد صلاة الجمعة..
وكذلك كان الأمر..وهي أول مرة أرى عزيمةً غيرَ جزائرية..وليمة دون الشخاشخ..
دخلنا إلى غرفةِ استقبالٍ فسيحةٍ “صالون”، وقد مُدَّ على أرضيتها سِمَاطٌ طويلٌ، وتَوَزَّعَتْ في طُولِهِ وعرضِهِ صحونٌ صغيرةٌ مملوءةٌ بالأطعمة، وفي الوسط صحن كبير فيه الأرز..
أطعمة لم أعرف منها إلا البطاطس المقلية، وبعض الخضروات كالبصل الأخضر..والدَّبشة “كزبرة” والمعدنوس “البقدونس”..وهي على هيأتها مغسولة..طويلةَ السُّوقِ غيرَ مقطعة..خلاف عادة بلادنا..
لم آكل إلى شِبَعِي، رغم جَوْعَتِي..ذلك لاستغرابي من أكثر الطبخات..مع الطعم الحامض الطافح على غالبها..فالسُّوريون يحبون جدا عصر الليمون على الأطعمة، ويكثرون الخل في السلطات..أو حمض الليمون..
واحتسينا في الأخير الشاي..لكنه الشاي الأحمر..وهي أول مرة لي..فالمعروف عندنا الشاي الأخضر فقط..
وبدأتُ حلاوةُ دمشق والشعورُ ببركة الشام تَدبُّ في صدري، وتُبدد وحشة غُربتي..
كان تخوُّفا أعقبه أمنٌ..كان توجسا أعقبته طمأنينة..كان ترددا أعقبته سكينة..كان حزنا أعقبته فرحة..
وهكذا أعقب الظلامَ الضياءُ..والحلكةَ النُّورُ..فلله الحمد والثناء الحسن..
فقد بدأ أوَّل يوم لي في الشام بحضور مجلس علم في المسجد..في الفقه..وترحاب أهل الشام الحارّ..وكرمهم الكبير..
هناك ما قد يُقْدِمُ عليه الإنسان فيندم عليه ندما أليما موجعا دائما..وإنْ أندم على شيء فلا يمكن أبدا أن أندم على الرحلة إلى بلام الشام..كيف أندم..وهي من أعظم المنن الربانية على كاتب هذه السطور..في حاله ومآله..
بقي عليَّ التخطيط العاجل للُقيا سيدي الشيخ البوطي وتسليمه رسالة أخيه سيدي الشيخ الغزالي..حول موضوع دراستي في جامعة دمشق..فهي المهمةُ الأَولويةُ..

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com