ثقافة تحمل المسؤولية عن الفشل: ثقافة غائبة في مجتمعاتنا

د. بدران بن الحسن /
في مجتمعاتنا العربية، يبدو أن مفهوم تحمل المسؤولية عن الفشل وتقديم الاستقالة تحول إلى فكرة شبه غريبة، بل ومرفوضة في كثير من الأحيان. هذا السلوك يتناقض بوضوح مع كثير من النماذج العالمية، بما فيها تلك التي نجدها في الكيان الصهيوني الغاصب، رغم كل ما يحمله هذا الكيان الغاصب من همجية واحتلال وعدوانية، إلا أنه يتميز بميزة افتقدتها بلداننا، وهي شجاعة المسؤولين الكبار فيه على الاعتراف بفشلهم وتقديم استقالاتهم عند وقوع الأخطاء أو الإخفاقات.
تعليق الفشل على الشعب: ظاهرة عربية مألوفة
في بلداننا، نلاحظ أن المسؤول، سواء كان في منصب حكومي، حزبي، أو حتى في مؤسسة صغير أو أسرة، نادراً ما يعترف بفشله. بل يتم تعليق الإخفاق على الشعب أو على المرؤوسين. يُتهم المواطنون بعدم الفهم أو عدم التضحيات الكافية، وكأن المسؤول منزّه عن الخطأ. والأسوأ من ذلك أن هذه الشخصيات، كلما زادت إخفاقاتها، تجد أن شعبيتها في ازدياد، مدعومة بشعارات تُلصق أسباب الفشل بنظريات المؤامرة التي تستهدف الزعيم أو حزبه أو مؤسسته. وفي النهاية، يتحول المسؤول إلى «بطل» تصبغ عليه صفات القديسين الابطال على أنقاض الإخفاقات المتكررة.
وإذا رجعنا إلى تجارب الشعوب والدول، سنجد بعضها يقوم على ثقافة تحمل المسؤولية عن الإخفاقات، كما وقع في اليابان مثلا. فعندما ضرب زلزال فوكوشيما عام 2011 وأدى إلى كارثة نووية، أعلن رئيس الوزراء ناوتوكان عن مسؤوليته السياسية والأخلاقية، رغم أن المتسبب فيها ظاهرة طبيعية هي الزلزال، فقدم استقالته لتحمل المسؤولية، مشيراً إلى ضرورة قيادة جديدة قادرة على إعادة بناء الثقة.
في المقابل، نجد في بعض دولنا العربية أمثلة محزنة. خلال الكوارث الكبرى، كالحروب والأزمات الاقتصادية أو الانهيارات السياسية، قلّما يخرج مسؤول واحد ليعترف بخطئه أو يعلن استقالته. ففي أعقاب حرب 1967 والهزيمة المروعة للجيوش العربية في مواجهة الكيان الصهيوني، وبقيادة جمال عبد الناصر، نجد أن تلك الهزيمة التي سموها «نكسة»، وهي في الحقيقة كارثة استراتيجية، صار فيها عبد الناصر رمزا للنصر والوحدة العربية ومقاومة الاحتلال، رغم أنه هو ونظامه والمتحالفون معه متسببون في الهزيمة المروعة، التي لم تخرج مصر والأمة العربية بعد منها، بل أدت إلى مزيد من سيطرة الكيان الصهيوني على فلسطين والأراضي العربية المحتلة، وذلك بسبب الخطاب الشعبوي لعبد الناصر، وشعاراته الزائفة في النصر وتعبئة الشعوب على شعارات لا تجد لها ترجمة في الواقع. وفي العراق، على سبيل المثال، أزمات الكهرباء التي استمرت لعقود كانت تُعلّق على أسباب غير واضحة، وغالباً ما كانت تُطرح تبريرات تحمل الشعب جزءاً من المسؤولية بدلاً من الاعتراف بالفشل والفساد الإداري والانشغال برهانات طائفية بدل خدمة المجتمع وإخراجه من الوضع البائس الذي هو فيه. وفي لبنان، مع انفجار مرفأ بيروت عام 2020 الذي تسبب في دمار واسع ومقتل مئات الأشخاص، كان المسؤولون يتقاذفون المسؤولية بين بعضهم البعض، بينما لم يستقل إلا قلة قليلة، ومعظمهم تحت ضغط شعبي هائل وليس بدافع وعي أخلاقي أو شعور بالمسؤولية.
المسؤولية في الأحزاب والجماعات
هذا السلوك لم يتوقف عند أروقة الحكومات فقط، بل انتقلت عدواه إلى زعامات الأحزاب والجماعات الدينية وغير الدينية، وحتى الشركات والمؤسسات العامة. أصبحت ثقافة عدم تحمل المسؤولية عن الفشل جزءاً من نسيجنا الاجتماعي، بحيث يتم التعامل مع الزعيم – في أي مجال – كشخصية أسطورية خارقة، فوق النقد والمساءلة. وكلما فشل، زادت الهالة القدسية من حوله، وكأن الفشل هو دليل على قدرته «الخارقة» على مواجهة أعداء متخيلين. بل هناك من يبرر الفشل بمقولة «الابتلاء» و»المحنة» وغيرها من المقولات الفارغة من المحتوى المطابق للواقع المحتكم إلى سنن الاجتماع والعمران.
وهنا تتباين المجتمعات التي تؤمن بثقافة تحمل المسؤولية وبين تلك التي لا تؤمن بها. ولنأخذ مثالاً من التاريخ القريب عن ثقافة تحمل المسؤولية؛ ففي عالم الأعمال مثلا، يمكن الإشارة إلى انهيار شركة «إنرون» الأمريكية عام 2001، حيث قادت الفضائح المالية إلى استقالات جماعية للقيادة التنفيذية بعد أن ثبتت مسؤوليتهم عن التلاعب المحاسبي. بينما في العديد من الشركات العربية، عندما تقع فضائح مماثلة، نادراً ما نرى محاسبة علنية أو استقالات، بل غالباً ما يتم تهريب المسؤولين دون محاكمة حقيقية.
وفي الجانب السياسي، نجد ان العالم العربي المليء بالاستبداد والفساد في كثير من دوله، فإنه لما قامت شعوبه بالمطالبة بالحرية والكرامة والاحتجاج على الأوضاع المعيشية الصعبة وعلى غياب العدالة والقانون، فيما يسمى بالربيع العربي، فإن الأنظمة العربية حينها لم تعترف بفشلها في تحقيق التنمية والعدالة وحماية كرامة الناس وحرياتهم او تحقيق دولة القانون والمواطنة، بل أرجعت الأمر إلى مؤامرة ضد الأوطان وضد الدول العربية، وبدل أن تعترف السلط والأنظمة بفشلها، فإنها حولت مجتمعاتها إلى حمام دم وإلى سجن كبير، كأنها تطالب الشعوب بتحمل فشلها. بل تسببت الأنظمة في دمار الدول والمجتمعات العربية بدل المبادرة إلى تحمل المسؤولية والانسحاب من المشهد وترك المجتمعات تختار الاصلح والأكفأ.
نتائج ثقافة التقديس
هذه الظاهرة لها نتائج كارثية على مستوى المجتمعات. إذ تُقتل ثقافة المحاسبة، ويغيب الإصلاح، وتبقى الأخطاء تتكرر دون أي تصحيح. فالمسؤول الذي لا يخاف من المحاسبة، ويعيش تحت حماية تقديسه، لا يبالي بتأثير قراراته على الناس. في المقابل، يُطلب من الشعب أن يتحمل الأعباء، بل وأحياناً يُلام على الإخفاقات، فيُطالب بالصمت أو الهجرة، وإلا فإن البديل قد يكون القمع والمشانق والمجازر، كما وقع في اغلب بلدان العالم العربي. وسجن صيدنايا مثال صارخ عن كيف يتعامل المسؤول في بلداننا مع مطالبة الشعب بتحمل المسؤولية، حيث زج بالآلاف في ذلك السجن الرهيب ولم يخرج منهم أحياء إلا قليلا.
رضي الله عن سيدنا عمر الفاروق، الذي وضع ذلك المبدأ الخالد في تحمل المسؤولية والخضوع للمحاسبة والتقويم، حيث قال: «إن رأيتم في اعوجاجا فقوموني». ولا شك ان الاعوجاج معناه الخروج عن مقتضى تحمل الأمانة والمسؤولية، مما يقتضي محاسبة وتقويما.
كيف نكسر الحلقة المفرغة؟
إن كسر هذه الثقافة يتطلب تغييرا جذرياً ثقافيا وعمليا على جميع المستويات. حيث البداية تكون بتشكيل بيئة أو ثقافة تسمح بالنقد البناء وتشجع على تحمل المسؤولية. كما يجب ان ينمّى فينا أفرادا ومجموعا ومجتمعات قيم المحاسبة والشفافية، حيث يكون النجاح والفشل مسؤولية مشتركة، ولكن مع محاسبة المسؤول عن كل إخفاق. وفي هذا السياق فإن الإعلام والمثقفين لهم دور كبير في تسليط الضوء على هذه الإشكاليات وكسر حالة التقديس التي يحظى بها المسؤولون عندنا من القمة إلى القاعدة. كما أن التعليم والتربية يؤديان دوراً محورياً في بناء جيل جديد يدرك أن المسؤولية قيمة وأمانة وليست مجرد شعار أو تصرفا بلا حسيب ولا رقيب.
وما نختم به القول، إن الاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية علامة نضج فردي وجماعي ومؤسسي. وإذا أردنا لمجتمعاتنا أن تتطور وتحقق تنمية ونهضة حضارية توصلها على الحياة الطيبة الكريمة، فإن علينا أن نضع حداً لثقافة تعليق الفشل على الشعب وتقديس المسؤولين. فالمسؤول الناجح هو الذي يتحمل أخطاءه قبل نجاحاته، ويعمل على تصحيح المسار لا على تبرير الإخفاقات. والطريق طويل، لكنه يبدأ بخطوة شجاعة: تفكيك ثقافة التقديس والتكديس، وبناء ثقافة الإنجاز والأمانة والمحاسبة.