و ترجل المجاهد الكبير “سفير السلام ومعلم الناس الخير” أستاذنا المحامي المخضرم أحمد سي مزراق رحمه الله.

محمد مصطفى حابس: جنيف/سويسرا/
قال سبحانه و تعالى في محكم تنزيله، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾، في فضاء هذه الآيات البليغة من القرآن الكريم والتي يقول فيها المفسرون : ” من صفة هؤلاء الصابرين أنهم إذا أصابهم شيء يكرهونه قالوا: إنَّا عبيد مملوكون لله، مدبَّرون بأمره وتصريفه، يفعل بنا ما يشاء، وإنا إليه راجعون بالموت، ثم بالبعث للحساب والجزاء، فالصابرين، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره، قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ – أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد، علمه، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم، الذي هو أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك، الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورا عنده، وإن جزعنا وسخطنا، لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله، وراجعا إليه، من أقوى أسباب الصبر..”
المحامي المخضرم أستاذنا المجاهد المفكر، في ذمة الله.
بهذه الديباجة القرآنية في الصبر و الاحتساب، وببالغ الحزن والأسى تلقينا خبر وفاة، أستاذنا الكبير ، المحامي القدير ، الشيخ أحمد سي مزراق، صباح يوم الأربعاء 15 جانفي 2025م، الموافق لـ 15 رجب 1446هـ، عن طريق أحد أساتذتنا الأفاضل من العاصمة الفرنسية باريس، نبأ وفاة المحامي المخضرم الكبير أستاذنا المحامي المجاهد أحمد سي مزراق، بالجزائر، عن عمر ناهز الـ 83 سنة.
مارس الأستاذ أحمد سي مراق مهنة المحاماة بشكل رئيسي في الجزائر وبشكل ثانوي في فرنسا وفقًا للبروتوكول القضائي الفرنسي الجزائري المؤرخ في 28 أغسطس 1962، ثم استقر في سبعينات القرن الما ضي في فرنسا.
رحلة العذاب من فرنسا إلى إفريقيا السوداء
المحامي الشيخ أحمد سي مزراق، المقيم في فرنسا منذ عقود، أصيل أولاد جلال بالشرق الجزائري، من الذين بدأت معاناتهم منذ عقود حيث فقد ابنه في العشرية السوداء، كما حاولت فرنسا من جهتها السطو على أملاكه في باريس وضيقوا عليه وعلى ذويه وآل قرابته، فلم يتنازل عن المرافعة عن حقوقه وحقوق المظلومين !!
نفته عصابة وزير الداخلية الفرنسية “شارل باسكوا” من مقر إقامته وموقع عمله، أي مكتب المحاماة بباريس، في تسعينات القرن الماضي إلى أدغال بوركينا فاسو الافريقية، فصمد وأحتسب وتمسك بحقه القانوني لتثبت براءته من تهم ألبسته إياها فرنسا الاستدمارية وزبانيتها في منفاه الافريقي أكثر من عقدين.. رغم محنه في منفاه و كبر سنه و امراضه المتعددة، ناضل بقوة وصبر وحكمة لأخذ حقه ليعود لفرنسا قبل بضع سنوات فقط.
صبر بحكمة وناضل بقوة عن دينه وكرامة الانسان أمام غدر فرنسا
الأستاذ المحامي الحكيم ، أبو الأفارقة في منفاه ببوركينا فاسو، لم يضيع وقته في البكاء على الاطلال، بل اشتغل بالتأليف والتدريس والدعوة في المساجد الافريقية باللغة الفرنسية وبدعوة الناس وتوعيتهم بعظمة هذا الدين، دين الانسانية جمعاء ..
خطب وحاضر وألف كتبا عديدة بالفرنسية خاصة في التعريف برحمة هذا الدين وسعة افقه، وحاور القساوسة ورجال الدين وجادلهم بالتي هي أحسن و سجلت حواراته على حلقات كما جمعت في كتب و نشرت في إفريقيا و وزعناها حتى في أوروبا، كما ساهم في بناء المساجد وإقامة مشاريع خيرية في بوركينا فاسو وهو في منفاه ، لا و بل في إقامته الجبرية الظالمة بعيدا عن أهله في كل من فرنسا والجزائر، و له اليوم آلاف الطلبة الأفارقة و العرب الذين يحملون مشعل فكره وعلمه و تواضعه، إنه بحق وحقيقة، “سفير سلام ومعلم الناس الخير”..
أحمد سي مزراق مفكر ومؤلف متعدد المواهب
من الأمور التي اشتغل عليها بقوة عجيبة من أول أيامه في منفاه الافريقي، جمع المسلمين حوله وفي بيته مقر إقامته الجبرية، بندوات شرعية قانونية علمية، بعدها أسس من حر ماله وجهده، المركز الأفريقي للنشر العلمي والإسلامي (كاديس)، Centre Africain de Diffusion Islamique et Scientifique (CADIS)
و قد أصدر منه، ما يقارب الـ 20 كتابا وعشرات البحوث، من هذه الكتب باللغة الفرنسية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
– حوار جديد بين مسلم ومسيحي (مجلدان).
– الشريعة والاحداث اليومية
– الردة عن طريق الجهل: رسالة المسلم إلى إخوانه المرتدين
(3 أو 4 مجلدات) – في ظل الإسلام: دورة كاديس
– الشريعة الإسلامية والعقائد
– البدائل وطرق التغيير
– تاريخ الإسلام السياسي
– الطوائف والجمعيات السرية
– القدر ليس مرادفًا للحتمية
Nouveau dialogue entre un musulman et un chrétien ( 2Volumes)
La chari’a et l’actualité
Apostasie par ignorance: message d’un musulman à ses frères apostats
A l’ombre de l’Islam: cours du CADIS (3 ou 4 Volumes)
Droit et doctrines islamiques
Alternative et voies du changement
Histoire de l’Islam politique
Sectes et sociétés secrètes
LE DESTIN N’EST PAS SYNONYME DE FATALITÉ
“أحمد سي مزراق مفكر إسلامي معاصر “
من آخر ما كتب عنه، ما نشره الكاتب البوركينابي الدكتور محمدو عبادة كتابه بعنوان “أحمد سي مزراق مفكر إسلامي معاصر” وذلك في شهر مارس 2023 في واقادوقو. وقد أبدع صاحبه بهذا العمل التاريخي الذي يرنو به و هو من تلاميذ أستاذنا سي مزراق، الى توضيح الرؤية المعاصرة لأستاذه أحمد سي مزراق للإسلام، وقد صدر بالفرنسية، بهذا العنوان.
«Ahmed Simozrag, un penseur contemporain de l’Islam»
وقد شرفني الشيخ سي مزراق بمراجعة بعض كتبه، طالبا مني إعادة نشر بعضها في أوروبا، كما أرسل لي النسخة الأخيرة لهذا الكتاب بتقديمه هو، رحمه الله، و تأسفت أني لم أعتن بالموضوع، لأنه يتطلب جهد فريق عمل و ليس جهود أفراد لهم أكثر من هم و شغل.
كما أن للمرحوم المفكر سي مزراق أكواما من البحوث و المقالات في الصحافة العربية والدولية ومراكز البحث، قد نعود اليها، بقراءة ولو مقتضبة لما يحمل من فكر متوازن راشد، بشهادة أصحاب الاختصاص، و فيهم من قال أن الأستاذ سي مزراق منظر الفكر الإسلامي الوسطي في افريقيا الفرنكوفونية، أما عن أسلوب كتاباته، فهو فعلا مدرسة لوحده!!
عاصر مالك بن نبي و محمد حميدو الله و محمود بوزوزو..
هذا الرجل لمن لا يعرفه من الاجيال الجديدة داخل الجزائر والعالم العربي و الاسلامي، من الأقلام الفرنكوفونية الراقية التي تفننت في تقديم الإسلام بلغة راقية ، وهو الذي تعرف على مالك بن نبي و محمد حميدو الله و محمود بوزوزو وغيرهم و اخذ منهم، وهو من القلائل من المحامين العرب في الغرب من كَتَب عن الاسلام و حقوق الانسان و الصراع الفكري في الغرب و حاور زعماء وقساوسة المسيحيين، فكان أحسن محامٍ عن ديننا حيثما حل و ارتحل!!
ما كتابه عن ” الفرق الإسلامية “، لم يبدع فيه أي مفكر غيره .
و قد حدثني أستاذنا الدكتور محمد شعبان من جامعة ليون الفرنسية، أن ما كتبه المفكر أحمد سي مزراق في الجزء الثاني من كتابه ” في ظل الإسلام”، عن الفرق الإسلامية، لم يبدع فيه أي مفكر لا إسلامي و لا غربي حسب قراءاته ، نفس الكلام والملاحظة، ذكرت لي يوم أول أمس، من طرف كاتب و قارئ نهم، شيخنا الأستاذ صالح بوزينة، الكاتب المترجم و الامام الجزائري المعروف المقيم في السويد، و هو على فكرة كان من موزعي كتب المفكر المحامي سي مزراق في أوروبا معنا، لرغبة الاخوة الأفارقة في أوروبا للتعلم من كتبه ومنهجية طرحه الحقوقي الشرعي!!.
جزاه خيرا عما قدمه لدينه ووطنه وأمته من جهود وأعمال ..
و لما نشر أستاذنا الشيخ الدكتور الطيب برغوث هذا الأسبوع كلمة تعزية و مواساة عن رحيله، في صفحة ” منتدى دراسات النهضة الحضارية”، حيث كتب يقول:” رحم الله المحامي القدير رحمة واسعة وجزاه خيرا عما قدمه لدينه ووطنه وأمته من جهود وأعمال عامة كثيرة مباركة بإذن الله تعالى…”
كما اقترح علينا بعض الدكاترة من الجامعة القطرية، التفكير في اطروحات، لطلبتنا في العالم الإسلامي و الغربي عن تراث المفكر سي مزراق و نضاله الفكري والقانوني. كما اقترح أستاذ آخر البداية بندوة – هذه الأيام – عن تراثه المطبوع على الاقل، أما أحد أساتذتنا في العلوم الشرعية من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة فقد تأسف أنه لم يقرأ كتب الرجل بالفرنسية وقد ضاع منه خير كثير، على حد تعبيره !!
كلمة أخيرة، فالمرحوم أستاذنا المفكر سي مزراق، بالنسبة إلينا مكتبة بل موسوعة، فهو كاتب مؤلف و ناشر وموزع من حر ماله!! رغم الإقامة الجبرية في أدغال افريقيا، لكنه كان موزع علم و معرفة علينا خصوصا في أوروبا، كان يرسل لمؤسساتنا الخيرية والإنسانية ومساجدنا كتبه، دون مقابل، وتوزع عموما مجانا، ولم يطلب منا يوما واحدا، حتى ثمن الشحن، ويرسل بكميات كبيرة لتوزيعها على المسلمين و المكتبات الجامعية والجمعيات الحقوقية والهيئات الأممية في الأمم المتحدة بجنيف والنمسا وغيرهما.
وبهذا المصاب الجلل يتضرع الإخوة والاخوات، أساتذة وطلبة في “منتدى دراسات النهضة الحضرية”، و كذا الافاضل والفضليات في كل من “اتحاد المنظمات الإسلامية بأوروبا ” إلى الله سبحانه وتعالى بأن يتغمد فقيدنا بواسع رحمته، وأن يفسح له في جنته.
فاللهم اغفر لأستاذنا وارحمه برحمتك الواسعة وألحقه بالنبيين والصديق والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وصبر اللهم أهله وذويه وطلابه ومحبيه. ولا تحرمنا اللهم أجره ولا تفتنا بعده، والحمد لله على ما أعطى وعلى ما أخذ، و”إنا لله و إنا إليه راجعون.”