مساهمات

الشيخ الجليل «أحمد بن محمد المقّري التلمساني الجزائري» (1631-1578م/1041-986هـ): دوره في كتابة التاريخ الإسلامي

البدر فارس/

هو «أحمد بن محمد المقّري»، «شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد المقّري التلمساني القرشي المالكي» من أعلام الفكر العربي في «الجزائر» أثناء عهدها العثماني وشخصية مُتميّزة فكريًا.
وُلد «شهاب الدين المقّري» سنة: (986ه المُوافق/ لسنة: 1578م) بمدينة «تلمسان»، وأصل أُسرته من قرية «مقرة» التي تقع في منطقة «المسيلة»، نشأ بمدينة «تلمسان» وطلب العلم فيها وكان من أهم شيوخه التلمسانيين عمه الشيخ «سعيد المقّري»، وقد أمضى خلال سنوات هذه حياته في طلب العلم وحفظ القرآن الكريم وعلوم الشريعة.
انتقل إلى مدينة «فاس» في عهد السلطان «السعدي أحمد المنصور»، ثم ذهب إلى «مراكش» لكنه عاد إلى مدينة «فاس». عيَّنه السلطان «زيدان الناصر بن أحمد» مفتيا وإماما لمسجد القرويين سنة 1618م. رحل بعدها لِأداء فريضة الحج بـ»مكة المُكرمة»، فمرّ بمدينة «القاهرة»، ثم زار «دمشق» و»القدس» ثم توجه نحو «مكة المكرمة» وأخذ هنالك العلم، وجلس للتدريس بِالحرم، ثم ذهب ل»دمشق» مرة ثانية وجلس للتدريس في علوم الفقه والحديث والتاريخ واللغة وأخذ يُحدِّث الناسَ عن مفاخر «الأندلس» وتاريخها، حيث أوقف نفسه لِكتابة التاريخ الأندلسي واستمر في تصنيفه، وخلالها عاد إلى «القاهرة» حيث وافته المنية سنة 1041هجرية المُوافق لسنة 1631م، رحمه الله تعالى.

مؤلفات «المقّري»
يُعد «المقّري» أحد أبرز المؤرخين المسلمين في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، له عدة مُؤلفات، بعضها في عداد المفقود، نذكر من هذه المؤلفات:
– كتاب «الرحلة إلى المغرب والمشرق»: وهو من الآثار المفقودة إلى أن قدمت حفيدة المُستشرق الفرنسي «جورج ديلفان» سنة 1993م للمكتبة الوطنية بـ»الجزائر العاصمة»، والمُتمثلة في مجموعة من المخطوطات من بينها «رحلة المقّري».
– «أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض» من خمسة أجزاء.
– «روضة الأنس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس».
– «حسن الثنا في العفو عمن جنى».
– «عرف النشق في أخبار دمشق».
– أرجوزة سماها «إضاءة الدجنة في عقائد أهل السُّنة».
– أرجوزة سماها «زهر الكمامة في العمامة».
– كتاب: «موسوعة نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب»، وهو من أشهر مؤلفات «المقّري» كما يُعد أحد أبرز المراجع العربية المُعتمدة حول تاريخ «الأندلس».

التعريف بموسوعة «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» ومُحتواه العام
هو موسوعة تاريخية مُهمة في دراسة التاريخ والأدب والجغرافيا الخاصة بـ»الأندلس»، وقد صرح الشيخ «المقّري» في مُقدمة كتابه أنه ألفه إجابة لِطلب الإمام «المولى الشاهيني» أستاذ المدرسة الجقمقية في «دمشق»، وقال: «وعزمت على الإجابة لِما للمذكور عليَّ من الحُقوق، وكيف أُقابل بره بالعُقوق، فوعدته بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزية».
وقد كان عنوان الكتاب في أول الأمر: «عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب»، فلما توسع صاحبه في مادته وشملت «الأندلس» أدبًا وتاريخًا، عمد إلى تغيير عنوانه إلى: «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب».
ويُعد هذا الكتاب موسوعة تاريخية وأثرًا أدبيًا هامًا لا يُمكن الاستغناء عنه عند دراسة التاريخ والأدب والجغرافيا الخاصة ببلاد «الأندلس»، فهي موسوعة نفيسة قيّمة تتكون من ثمانية مُجلدات.
وقد أعطى «المقّري» أهمية كبيرة للجغرافيا في كتابه هذا، فتحدث عن المُدن الأندلسية وسكانها، ثم قام بوصف مناخ تلك البلاد، وبيَّنَ مساحتها وحدّد أراضيها وأول من سكنها، وتاريخ الإقليم المُحدد.
بدأ الكاتب حديثه عن «الأندلس» قائلًا: «محاسن «الأندلس» لا تستوفى بِعبارة، ومجاري فضلها لا يشق غباره، وأنّى تجارى، وهي الحائزة قصب السبق في إطار الغرب والشرق».
كما يتطرق «المقّري» في كتابه هذا لعدة مواضيع مُرتبطة بالمُدن، كذكر أبعادها والمسافات التي تفصل بعضها عن بعض، ولِمُحيطها الطبيعي من جبال وأنهار ومناخ، ويذكر أعمال المُدن أو القرى، وما يتبعها، ويُولي أهمية كبيرة لِمُختلف عناصر الحسن المُميّزة لهذه المدينة أو تلك، ويتعرض أخيرًا لِخراب بعض المُدن واندثار أثرها.
والمسافات عند الكاتب تُحدد بِعدد الأيام حينًا، كما هو مُتعارف عليه في ذلك العهد، فيقول: «طول «الأندلس» ثلاثون يومًا وعُرضها تسعة أيام»، ويقول في مكان آخر نقلًا عن «ابن بطوطة»: وخارجها، أي «غرناطة»، لا نظير له وهو مسيرة أربعين ميلًا.
أما في تناوله لِسكان «الأندلس»، فقد ذكر حبهم للعلم والأدب فقد بلغوا شأوًا في مجال العلوم والآداب، فقصد الطلبة بلادهم من كل حدب وصوب يستلهمون قبسات من رحيق العلم اليانع وشذاه العطر، فيذكر أنَّ أهل «الأندلس» هم من أحرص الناس على التميّز في فنون العلوم… وأنَّ سمة العلم والملك مُتوارثة فيهم، وأنّهم أشد الناس اعتناء بخزائن الكُتب حتى إن الواحد منهم يملك خزانة كُتب قد لا يفقه مُحتواها، لا لِشيء إلا لِيُقال إن بيته مكتبة، ويُورد المؤلف رسالة «الشفندي» في ذكر بعض علماء «الأندلس» والفنون التي برعوا فيها، وذكر أبطالهم وحُروبهم.
كما يذكر أن أهل «الأندلس» عرب في أنسابهم، يتصفون بِالعزّة والأنفة وطيب النفس وعُلو الهمّة والنزاهة…
وهكذا أصبح كتاب «نفح الطيب» من أبرز المراجع حول «الأندلس» وأناسها.
أما المصادر التي اعتمد عليها «المقّري» في كتابه هذا فلم يصلنا منها سوى القليل، مثل كتاب: «مطمح الأنفس» لابن خاقان، و«المغرب» لابن سعيد، و «المطمح الكبير».

كُتب الرحّالة والجغرافيين
وأهميتها في كتابة التاريخ
وعلى غرار شيخنا الجليل «أحمد بن محمد المقري التلمساني الجزائري» هناك رحّالة عِظام في تاريخنا الإسلامي المجيد أثروا الحركة الفكرية والثقافية، وكان لهم دور بارز في إمدادنا بِمعلوماتٍ ثرية عن العالم الإسلامي وغير الإسلامي في ذلك الوقت.
فـ «اليعقوبي» قام برحلات إلى «أرمينية» و«إيران» و«الهند» و«مصر» وبلاد «المغرب»، وألف لنا كتاب «البلدان»، ووضع «الإصطخري» كتابه «مسالك الممالك»، و»للمسعودي» كتابه الشهير «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، ولـ»شمس الدين المقدسي» «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، و»ابن حوقل» ألف في القرن الرابع الهجري كتابه «المسالك والممالك»، و»البيروني» الذي عاش في القرن الخامس الهجري ألف كتاب «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، وكتاب «تحقيق ما ِ»للهند» من مقولة مرذولة في العقل أو معقولة»، و»البكري» الذي عاش الربع الأخير من القرن الخامس له كتاب «المغرب في ذكر أفريقية والمغرب»، ومرجعه الشهير «معجم ما استعجم»، وفي القرن السادس الهجري ألف «الإدريسي» كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، وفي القرن السابع الهجري كتب «ابن جُبيْر» رحلته المشهورة، وكتب «ياقوت الحموي» كتابه «معجم البلدان»، وفي القرن الثامن الهجري يطلع علينا الرحّالة الذائع الصيت «ابن بطوطة» ويكتب رحلته التي نُسبت لِاسمه «رحلة ابن بطوطة»، واسمها الأصلي «تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار».
وهذه المصادر تُشكل أهمية كبيرة لدى الباحث التاريخي، فسيجد فيها معلومات مُهمة عن هذه البلاد وعاداتها وسياساتها، فعلى سبيل المثال: فإنَّ تاريخ نُشوء الدولة العثمانية سُجل بعد النشأة بكثير، والمعلومات التاريخية عن هذه الحقبة قليلة للغاية، ومع ذلك نجد في «رحلة ابن بطوطة» معلومات مُهمة، فقد زارها في عهد «أورخان بن عثمان»، ثاني أمراء الدولة العثمانية، وفي حين أن المؤرخين العثمانيين يذكرون أن «عثمان» لم يكن لقبه حال حياته إلا «بك» أي: أمير، ولم يُلقب بسلطان أو خان إلا بعد وفاته (كتاب: تاريخ الدولة العثمانية، للكاتب «يلماز أوزتونا»، ص: 92)، وهكذا كان لقب ابنه «أورخان»، ومن بعده «مراد الأول»، ولم يظهر لقب السلطان إلا بعد هؤلاء الثلاثة، فإن «ابن بطوطة» في رحلته ذكر «أورخان» وأباه بالسلطان، ووصفه بأنه أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالًا وبلادًا وعسكرًا، له من الحصون ما يُقارب مئة حصن (كتاب: رحلة ابن بطوطة، الجزء الثاني، ص: 197). وهذا يدل على أنهم وإن لم يُلقبوا بذلك فلا شك أن مهامهم هي مهام السلطان، وربما لم يتلقبوا بذلك تواضعًا أو تدرجًا في المناصب ما دعا إلى إطلاق «ابن بطوطة» اللقب عليهم.
كما أنه رأى قبر «عثمان» في «بورصة»، التي اتخذها ابنه «أورخان» عاصمة له (كتاب: رحلة ابن بطوطة، الجزء الثاني، ص: 198)، وقبره كائن في حي «طوبخانه».
كما أنه رأى نظام الأخية وهي روابط تربط كل طائفة من الحرفيين، بمنزلة النقابات في زماننا المُعاصر، وكان لكل طائفة رئيس، ولها نظام وهيئة، وقوانين وأعراف، كما كان ينضم لكل طائفة أحد مشايخ الصوفية في المنطقة لِيؤسسوا جميعًا رابطة تجمع روابط الأُخوة الإسلامية بين أفراد كل حرفة، وأُعجب بهم «ابن بطوطة» وتحدث عنهم ونقل إلينا أفعالهم في رحلته (كتاب: رحلة ابن بطوطة، الجزء الثاني، ص: 163).
ولا يخفى على الباحثين أهمية هذه المعلومات الصغيرة في تاريخ ناشئ كثير منه غير مُوثق نلمح فيه النسج الشعبي الأسطوري المُضطرب، بِخلاف الاتهامات التي تُوجه من حين لآخر لهم. فهذه شهادة مُعاصر رأى بنفسه ولم يسمع من غيره.
وعلى الباحث أو المؤرخ أن يدرس بِعناية الرحلة التي تُغطي العصر الذي يؤرخ له، بل عليه أن يُداوم على مُطالعة مثل هذه الكُتب لِيصل بسهولة إلى مظانه التي يبحث عنها.
وهناك الكثير من الرحّالة الأجانب الذين جابوا منطقتنا العربية والإسلامية من القرن السابع عشر إلى أوائل العشرينيات، والواقع أنه لا يُمكننا تفريغ مضمون رحلات هؤلاء الأجانب من مضمونها السياسي والاستعماري، فإذا كان سلفنا المسلم لا يقصد من رحلته إلا العلم خالصًا لوجه الله تعالى، فإن رحّالة العصر الحديث ومُكتشفيه من الأوروبيين -وإن كانوا قد أدوا للعلم الجغرافي والتاريخي فائدة غير منكورة- لهم أغراضهم السياسية والاستعمارية، وتبعيتهم لِجمعيات لا تخفي دورها الاستعماري قد شوَّهت جهدهم العلمي، وكان لزامًا على الباحث أن يتحرز فيما ينقله عنهم في بعض الأحيان، خاصةً في مجال تفسيرهم للأحداث ووصفهم للمعتقدات، وعلى الرغم من علمهم الذي لا يُنكر فقد يجهلون العادات والتقاليد المحلية فيُفسرونها تفسيرًا مُغرضًا أيضًا. مثال ذلك:
الرحّالة الأوروبي الذي جاب غرب أفريقيا «منجو بارك»، وكانت إحدى رحلاته سنة 1795م تحت عنوان: «ملك الوولي» (the king of wooli).
فهو يقول: «كانت المدينة -medina- هي عاصمة مملكة «وولي» -wooli- والمدينة كلمة عربية تعني بالإنجليزية -city- ولم يكن الاسم شائعًا بين الزنوج، ويحتمل أن يكون المسلمون هم الذين أدخلوه».
لاحظ هنا إصرار «منجو» على الفصل بين الزنوج والمسلمين، إنه يتحدث عنهم كعنصريْن مُختلفيْن، وكأنما لا زنوج مسلمون، ولا مسلمون زنوج، ثم لاحظ قوله: إن الاسم غير شائع بين الزنوج، كيف ذلك مع أنها عاصمة مملكة؟ أما كوْن -المدينة- من أصل عربي وأنه أتى في ركاب المسلمين، فهذا أمر لا يدعو للظن أو الشك، ثم يستمر «منجو بارك»، قائلًا:
«لقد حططت رحالي في المدينة، وهي واسعة، ويُحيط بها سور من الطين مُرتفع، وذهبتُ بعد الظهيرة لِتقديم الاحترام للسلطة «الملك»، ولِأسأله السماح لي بالمرور عبر بلاده إلى «بوندو» -bondou- ولقد ألقيتُ التحية على الملك باحترام وأخبرته عن أسباب زيارتي، وقد أجابني الملك قائلًا: أنا لا أعطيك فقط حق المرور بل سأُقدم لك بركاتي وتمنياتي بالسلامة، وعندئذٍ شرع واحد من المُرافقين لي في الغناء أو بالأحرى في الزئير، فقد كان صوته قويا غير جميل، وقد كانت أغنيته بالكلمات العربية، وعند كل مقطع من الأغنية كان الملك نفسه وكل المُحيطين به يضربون بأيديهم على جباههم ويُرددون بِخضوع وتأثر شديد: آمين… آمين».
من الواضح أن الرجل يدعو الله، ومن الواضح أن الملك ومن حوله يؤمنون على الدعاء، ومن الواضح أن الكلمات العربية خاصةً كلمات الدعاء مَفهومة من الملك، ومن الواضح أن الملك مسلم، وبالرغم من كل هذا فإن «منجو بارك» يُعلق قائلًا: «إن الملك لم يكن بالتأكيد مُسلمًا»، ولم يذكر لنا «منجو بارك» مَصدر تأكيد هذا، ويستمر قائلًا: «وربما فعل الملك ذلك لأن نفسه خيّرة وطيّبة»…!! (نقلا عن كتاب: المدخل إلى علم التاريخ، للدكتور عبد الرحمن الشيخ، ص: 104، 105).
تعليل غريب، والغرض واضح، لقد أحال «منجو بارك» تمنياته بِألا تكون هذه المناطق على الإسلام، إلى تقرير خالف به الواقع.
هذا مُجرد مثال يجعل الباحث يخضع كُتب الرحّالة الأوروبيين للنقد أو التقويم قبل الأخذ عنها، وبالله التوفيق.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com