مقالات

شيءٌ من النظر اللغوي دور المصطلح في ضبط المفاهيم وبناء الأنساق مثال من البلاغة

د. مسعود صحراوي/

ثمة نصٌّ للسيوطي في “معترك الأقران”، يلخّص فيه شيئا من الاختلاف في تصنيف ظواهر “الخبر والإنشاء” وأضربهما في الخبرة العلمية العربية القديمة (التراث) [ابتداء من قوله: الوجه الثامن والعشرون من وجوه إعجازه… الخ، ص319 وص320 من المجلد الأول] فليرجع إليه من شاء.
ولئن كان السيوطي لم يحدّد في هذا النص طبيعة الإشكال العلمي والبيداغوجي في الظواهر الداخلة في دائرة “الإنشاء” على الخصوص فإنه أثبت الخلاف القديم في تصنيف الظواهر واختلاف الرؤى وتعددها في المسألة… وهذا يفتح للباحثين باب السؤال عن سبب اختلاف أولئك العلماء في مسائل مركزية كمسألة الحال، وقد يعجب بعضهم من أن يسود في شأنها كل هذا الخلاف العريض طوال مدة من الزمن طويلة، ولكن “إذا عرف السبب بطل العجب”… فما هو السبب؟
حين يسأل الباحث-الذي يرصد مختلف آراء علمائنا القدامى ويتابع رحلة المفاهيم عبر الزمن وتطورها وتفاعلها-عن هذا الخلاف فليس عسيرا عليه أن يعرف أنّ اختلافهم في تصنيف ظواهر “الإنشاء” مردّه إلى سبب أساسي هو السببٌ الاصطلاحيٌّ، وأن تتبع مراحل التطور الاصطلاحي في علم المعاني يهدي إلى أنه قبل وجود مصطلح جامع يلخص ظواهر “الطلب” كما سمّاه السكاكي (ويعني به الإنشاء الطلبي لأن غير الطلبي كان مُختلَفا فيه) أقول: قبل ذلك لم يحصل استقرار بل كثرت الآراء وتباينت في مسائل الحد والتصنيف والتفريع والخصائص المميزة وترشحت عنها إشكالات، ومن أمثلتها:
• أن الفيلسوفين الفارابي وابن سينا مثلا كانا يريان أن فعليْ “المدح والذم” من الأخبار لا من الإنشاءات.
• ومن نتائجها التقسيمُ الطريفُ المنسوب للجاحظ الذي خالف فيه جمهور البلاغيين
• ومنها أن بعضهم قسم الكلام إلى أربعة أقسام: خبر واستخبار وطلب وإنشاء.
• ومنها أن الرضي الإستراباذي مثلا قسم الكلام إلى ثلاثة: خبر وطلب وإنشاء
• …الخ
ومن أبرز الأسباب في ذلك-فيما نرى- غيابُ المصطلح المحدد للمفهوم في بعض مراحل تطوُّر البلاغة العربية… ولكن بعد ما حصل الاستقرار على مصطلح جامع يُلملم شتات ظواهر “مفهوم الإنشاء” بفرعَيْه في عصر متأخر (في نهاية القرن السابع أو بداية الثامن) حصل الاستقرار في التقسيم والتصنيف وتحدّدت الظواهر الخِطابية (بكسر الخاء) المنضوية تحت مقولتيْ “الخبر والإنشاء” بصفة أعمق، وائتلف المؤتلف منها واختلف المختلف، وجُمعت الأشباه والنظائر، واكتملت الأنساق وزال أكثر الإشكالات العلمية والبيداغوجية، (وإن بقي بعضها معلقا)… حتى وصل نسق المقولتيْن إلى حال الاستقرار، وأما قبل ذلك فلم يحدث.
وهذا النوع من الإشكالات -أعني الإشكال الاصطلاحي- هو أبو العوائق العلمية والبيداغوجية وأمُّها، في عصرنا على الأخص، وهو ما يَشين خطاب المعرفة اللسانية المترجمة إلى العربية منذ أواسط القرن الماضي، وتفاقمت مشكلاته في العقود الأخيرة، فأساء إلى خبرتنا العلمية القديمة (التراث) حينا وبخس جهود العلماء العرب القدامى حينا آخر، وأضر بالتحصيل لدى الطلاب والمتلقين ولدى بعض الباحثين.
ومن هنا ندرك قيمةَ المصطلح العلمي الملائم مفهوميا وأهميتَه في أنساق العلوم وفي تشقيق الأفكار العلمية وفي ضبط المفاهيم وتمايزها
*أستاذ التعليم العالي ـ باحث وأكاديمي جزائري

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com