خواطر على هامش مذكرات الدكتور عبد القادر فضيل

أ.د. مولود عويمر/
منذ سنوات قليلة حدثني الدكتور عبد القادر فضيل عن شروعه في كتابة مذكراته. وقد أسعدني الخبر وتمنيت له كل النجاح لإتمام عمله. وكلما التقينا في مركز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بحسين داي، أو في نادي الترقي بساحة الشهداء أو في بيته العامر بالقبة، أو في الندوات الفكرية والملتقيات التاريخية بادرته بالسؤال عن تلك المذكرات.
أخيرا صدر الكتاب المنتظر
في كل مرة يبشرني بتقدم العمل وإن كنت ألحظ على وجهه قليلا من التردد الذي لازم دائما العلماء والمفكرين الجزائريين الذين يعتبرون المذكرات حديثا عن النفس وهو أمر غير محمود في ثقافتنا العربية وسلوك مكروه في تقاليدنا وعاداتنا.
غير أنني قطعت الشك وتيقنت من تقدمه خطوات كبيرة في هذا التأليف عندما تواصل معي في الصيف الماضي عدة مرات ليتأكد من معلومة أو يطلب صورة نادرة ينوي نشرها في هذه المذكرات. وعندما سمعت بصدورها أخيرا في شهر نوفمبر 2024 عن دار الأمة للنشر والتوزيع، هاتفته وهنأته على إصداره المنتظر. واتفقنا على موعد يوم 14 نوفمبر في جناح دار الأمة بمعرض الجزائر الدولي للكتاب لأقتني نسخة منه مع توقيعه.
صدر هذا الكتاب في 372 صفحة من الحجم المتوسط بعنوان: «ما عشته مع المدرسة: سيرة ومسيرة». وقد حرص المؤلف أن تكون صورة الغلاف تبرز مرافقته الرئيس هواري بومدين وهما يدخلان إلى قاعة المؤتمرات بقصر الأمم لافتتاح الندوة الوطنية الأولى للتعريب المنعقدة أيام 14-17 ماي 1975. وقد كان الدكتور فضيل رئيس الندوة ومسيِّر أعمالها.
ذكريات قبل المذكرات
هل أنا في حاجة لأقرأ مذكراته حتى أتعرف على مراحل حياته وصفحات من أعماله؟ في الحقيقة كنت أعرف جزءا كبيرا من حياة الدكتور فضيل منذ التقيت به في العام 2003، وسافرت معه إلى عدة مدن جزائرية برا وجوا، وأنصتت إلى أحاديثه الممتعة خاصة في رحلتنا في القطار إلى مدينة الشلف، وشاركنا معا في مناسبات علمية عديدة، وفي كل لقاء يحدثني عن تجاربه في الحياة، وأطرح عليه أسئلة حول الأحداث التي عايشها والشخصيات التي عرفها، ويجيبني في كل مرة بصبره المعهود ولسانه العربي الفصيح معتمدا على ذاكرته القوية لاستحضار ذكرياته البعيدة والقريبة.
وحينما تسلمت رئاسة تحرير مجلة «التبيان» الثقافية حرصنا مع مساعدي الشيخ كمال أبو سنة مدير التحرير على محاورته واستضافته في ركن «شخصية العدد»، الصادر في أفريل 2018. وقد تضمن البورتريه المصوّر معلومات عن سيرته العلمية ومسيرته المهنية، وصفحات من معاركه الفكرية من أجل سؤدد اللغة العربية، وإصلاح المنظومة التربوية، والارتقاء بالمدرسة الجزائرية.

فضيل طالب ينشد العلم في كل مكان
خصص الدكتور فضيل الجزء الأول من الكتاب لنشأته في ومراحل تحصيله العلمي. لقد ولد في 24 سبتمبر 1932 في دوار حميس بدائرة تنس بولاية الشلف. درس في مسقط رأسه على والده الشيخ محمد فضيل. فحظ جزءا من القرآن الكريم ثم أرسله والده إلى جامع قرية الحمايدية ليكمل تعليمه على واحد من أنجب طلبته. وقد وحد عنده الرعاية الخاصة، فلم يكن يقتصر على تلقينه سور القرآن واستظهاره ومبادئ اللغة العربية، وإنما كان يسجل له في لوحته الحكم والأذكار ويطلب منه حفظها والتأمل في معانيها.
وعندما أتم حفظ القرآن، عاد عبد القادر فضيل إلى مسقط رأسه ليواجه متطلبات الحياة، فاشتغل خياطا بعد أن قام بشراء آلة الخياطة وكراء محل صغير، إلا أنه لم يوفق في مشروعه التجاري لأسباب كثيرة، فقرر العودة إلى الدراسة بعيدا عن قريته. سافر إلى قرية سيدي عكاشة وانتسب إلى مدرسة جامعها وأخذ على مدرِّسها الشيخ عمر تليلي دروسا في النحو والبلاغة والفقه والعقيدة والسيرة النبوية. وقد تأثر بهذا الشيخ المربي الذي فتح له أبواب المعرفة.
وبعد الزلزال الذي ضرب الشلف في عام 1954، انتقل عبد القادر فضيل إلى تلمسان للدراسة في مدرسة سيدي بومدين التي درّس فيها من قبل العلامة عبد الرحمن بن خلدون. وكان يشرف على هذه المدرسة العالم الشيخ علي البودليمي الذي أحياها بعد أن توقفت عن مهمتها التلربوية. وجمع فضيل بين التعلم، وتعليم التلاميذ المبتدئين. وبعد عام هيّأ نفسه للسفر إلى فاس لمواصلته دراسته في جامع القرويين لكنه تم توقيفه في مدينة محطة مغنية من كتيبة من الجنود الفرنسيين وهو يتجه في القطار نحو المغرب الأقصى.
وبعد أيام من الاعتقال والاستنطاق والإهانات تم إطلاق سراحه ورجع إلى تلمسان ورجع إلى عمله التربوي. غير أنه بقي تواقا إلى الاستزادة في طلب العلم فاتجه نحو الشرق وانضم إلى المدرسة الكتانية بقسنطينة ودرس على مجموعة من العلماء وتأثر بشكل خاص بأستاذه الشيخ عبد العلي الأخضري.
من التعليم إلى التفتيش التربوي
لما اشتد الحصار على هذه المدرسة أثناء الثورة التحريرية، عاد إلى تلمسان، ثم انتقل إلى الزاوية السنوسية بمستغانم بعد أن وجه له شيخها محمد بن تكوك دعوة ليدرس ابنه مصطفى الذي قطع دراسته بجامع الأزهر بالقاهرة، وعاد إلى الوطن بإلحاح من والده ليساعده على تسير شؤون الزاوية. واكتشف المعلم فضيل أن تلميذه المؤدب والنجيب كان أيضا مناضلا سياسيا ومشاركا في النشاط الثوري ومدعما للمجاهدين الذين كان يستقبلهم في الزاوية.
التحق فضيل بالمدرسة الثعالبية بالجزائر العاصمة في دورة تكوينية بعد توجيهات الأستاذ الشيخ بوعمران الذي كان آنذاك مفتشا تربويا للغرب الجزائري، وقد نجح في المسابقة والدورة وعين بعد تخرجه معلما في مدينة مستغانم في بداية عام 1961. وكان خلال هذه الفترة على اتصال بالمعلمين الذين يعملون في المنظمة المدنية لجبهة التحرير الوطني في وهران.
وبقي في التعليم بعد الاستقلال إذ درس في ثانوية عقبة بن نافع في باب الوادي ثم عيّن أستاذا بمعهد المعلمين في بوزريعة والذي كان يديره بحزم السيد عبد الحميد مهري. وفي عام 1966 شارك في مسابقة أخرى في الجامعة وتحصل على شهادة الكفاءة للتفتيش الابتدائي وإدارة دور المعلمين. وتم تعيينه مفتشا ليشرف على الجوانب البيداغوجية والتربوية للمعلمين. ثم رقي إلى مرتبة المفتش العام للتربية وعلم النفس على المستوى الوطني في عام 1973. وتحسنت ظروفه الاجتماعية السيئة التي عايشها مع أسرته خلال السنوات الماضية، ولم يوفق في التغلب عليها إلا بفضل جهود زوجته التي كانت نعم الدعم له في تسير شئوون البيت والإشراف معا على تربية الأولاد تربية حسنة.
طالب بجامعة الجزائر
بعد استرجاع السيادة الوطنية، انتقل فضيل إلى مدينة الجزائر ليتمكن من الدراسة في جامعة الجزائر. دخل إلى معهد الدراسات العربية وتخرج منه بعد 3 سنوات بشهادة الأستاذية للتدريس. وقد درس على نخبة من الأساتذة أمثال رشيد مصطفاي (الأدب والنقد والبحث)، أحمد حماني (اللغة والقواعد)، جموعي المشري (الحضارة الإسلامية)، عمار الطالبي (علم النفس والتربية). غير أنه تأثر بشكل خاص بالأستاذ مصطفاي الذي كان يجمع بين الثقافتين التراثية والمعاصرة.
ولم يتوقف عن التحصيل فقد واصل دراسته ونال شهادة الليسانس في الفلسفة ثم سجل في قسم الدراسات العليا في عام 1968 للحصول على شهادة الدكتوراه الدرجة الثالثة في علم النفس التربوي تحت إشراف الأستاذ المصري الدكتور مصطفى فهمي، الأستاذ المعار من جامعة القاهرة.
وقد اختار موضوع «مشكلة التخلف الدراسي لدى تلاميذ المدارس الإبتدائية». وقد ساعده عمله على الوصول إلى المعلومات الدقيقة والاحتكاك المباشر بمشكلة التربوية التي كانت يعالجها في أطروحته.
ولما عاد الأستاذ فهمي إلى مصر سافر إليه عبد القادر فضيل وقضى شهرين متتابعين في المكتبات المصرية ومجالسة مستمرة معه حتى تم انجاز رسالته ووافق على مناقشتها التي انعقدت جلستها في جامعة الجزائر في عام 1972، ونال شهادته باستحقاق.
من وزارة التربية إلى جمعية العلماء
التحق عبد القادر فضيل بفريق عمل وزير التربية الجديد محمد الشريف خروبي الذي جاء ليطبق السياسة التعليمية التي حددتها النصوص الصادرة في 16 افريل 1976 والتي وقعها الرئيس هواري بومدين. وكانت تنص على اصلاح المنظومة التربوية بما يتلاءم مع التوجهات الفكرية والسياسية للبلاد وعلى رأسها تطبيق نظام التعليم الاساسي. وهكذا عين مديرا مركزيا للتعليم الاساسي. لكنه سرعان ما اختلف معه، واستبدله بإطار آخر، لكنه بقي في الوزارة يواصل خدمة مشروع التعليم الأساسي الذي كان مؤمنا بنجاعته بالارتقاء بالمنظومة التربوية الجزائرية. كما اشتغل مع الوزراء الذين جاؤوا من بعد مثل علي بن محمد، وحرص على تعريب المواد العلمية في الأقسام الابتدائية، وتعريب التربية وعلم النفس في معاهد تكوين المعلمين والعمل المشترك مع المنظمات التربوية الدولية مثل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والإشراف على تأليف كتب جماعية رسمية لتعليم اللغة العربية.
وقد بذل جهدا كبيرا في مجال التعريب وأشرف على الندوة الوطنية الأولى للتعريب كما أشرت إلى ذلك في بداية هذا المقال. وقد ظل طوال مساره التربوي والفكري مدافعا عن التعريب من خلال عمله في وزارة التربية ومن خلال كتاباته الصحفية ومداخلاته العلمية ومشاركاته الاعلامية ومناقشته لكل البرامج التعليمية والإصلاحات التربوية التي تم اقتراحها من الحكومات الجزائرية المتعاقبة منذ استعادة الاستقلال الوطني.
وبعد تقاعده تفرغ للنشاط التربوي والفكري، وشارك في ندوات وملتقيات عديدة خاصة بعد التحاقه بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بطلب من صديقه القديم في وزارة التربية الشيخ عبد الرحمن شيبان، وقد عيّنه هذا الأخير مسؤولا على لجنة التربية ومتابعة مدارس جمعية العلماء عبر القطر الجزائري.
كما تفرغ الدكتور عبد القادر فضيل للتأليف فنشر مجموعة من الكتب أذكر منها: «المدرسة في الجزائر حقائق وإشكالات»، «اللغة ومعركة الهوية في الجزائر»…الخ. كما نظم قصائد شعرية كثيرة عبر مراحل مختلفة من حياته، ونرجو أن يجمعها الدكتور فضيل ويخرجها في ديوان يقرأه الناس، ويكتشفون جانبا آخر من مواهبه المخفية.