ملف

حرائق أمريكا: منظور كوني.. و رؤية أخلاقية (غضب الطبيعة.. أم لعنة السماء ؟)

أ. عيسى جرادي/

ماذا نكسب نحن العرب والمسلمين لو احترقت أمريكا كلها؟
بتقديري لاشيء.. فلا هي تغير مواقفها من قضايانا كلها ومنها فلسطين ولو بواحد في المائة.. ولا نحن نملك زحزحتها عن مواقفها هذه قيد أنملة.. ما يعني أن الأشياء ستظل على حالها.. والرابح دائما هو العدو الصهيوني.
أمريكا كما يُنظر إليها دولة عظمى – بمقاييس البشر طبعا – .. فهي تملك مقومات التعافي من أزماتها المادية بسرعة .. والراجح أنها ستمسح الرماد عن وجهها بعد هذه الحرائق.. وتعيد بناء ما تهدم بسهولة.. وتمضي الأمور عندهم كما كانت دائما.. فهؤلاء الناس – أعني الغرب عموما – خاضوا حربين عالميتين ولم ينكسروا.. بل ازدادوا قوة وحققوا السبق والتفوق.. ولهم قدرة عجيبة على ترميم أنفسهم.
المشكلة لا تكمن في أمريكا أو في الغرب عموما.. بل فينا نحن العرب.. أسرى مفاهيم واعتقادات خاطئة.. مفاهيم كثيرة تخللت حياتنا فأقعدتنا عن الحركة.. منها ما يمس فهمنا للدين كتابا وسُنة.. ومنها ما يتعلق بتصورنا لشؤون الحياة والعالم.. ومن ضمنها تأويل الأحداث وتقدير مآلاتها.
ففي كل مرة يضرب إعصار أو تسقط طائرة في أمريكا أو يهجم مخبول على مدرسة فيقتل عشرين أو مائة.. نقول إن الله انتقم من أمريكا.. ولعن الله أمريكا.. وأذل الله أمريكا.. وقد ندعو عليهم.. وننسى في غمرة روح التشفي التي ترفع درجة حرارتنا العربية.. أن أمريكا هذه هي نفسها أمريكا التي يتبناها النظام الرسمي العربي بحفاوة.. ويُسلم لها بالزعامة في كل شيء.. ويعطيها فوق ما تريد.. وتُستأذن حتى في إفشاء السلام بينهم !
من هنا تتحول مفاهيمنا و أحكامنا على الوقائع إلى لون من ترضية الذات وتبرير الفشل.. لتجرنا إلى هزائم مدمرة.. وعجز حضاري فاضح.. وتذيل مأساوي للقافلة الإنسانية.. مصحوب بحجم هائل من التأثير السلبي على كياننا النفسي والثقافي.
بين أيدينا اليوم مثال هذه الحرائق التي اجتاحت أمريكا.. وأحالت مساحات واسعة منها إلى صعيد أجرد موحش.. وهي التي كانت أرضا عامرة بالثروات نابضة بالحياة.. فكيف نقرأ هذه الظاهرة -وغيرها – أسبابا ونتائج؟
من وجهة نظري.. يمكن أن نتناول الأمر من منظور طبيعي.. كما يمكن أن نقاربه من زاوية شرعية وأخلاقية.. وبالجملة أشير إلى ما يلي:
1. يتحدثون عن غضب الطبيعة “الأم”.. حيث يشيع هذا التعبير بين الغربيين لتفسير نوازل الطبيعة.. من إعصارمحيطي أو عواصف ثلجية أو زلازل ضخمة على سبيل المثال.. فيمنحون الطبيعة وعيا وينسبون إليها القدرة على التصرف بقسوة.. أو قل هو لون من التأليه الضمني لقوى الطبيعة.. والحقيقة أن الطبيعة مخلوق من مخلوقات الله طاقة ومادة.. محكومة بقوانين بثها فيها.. لضبط حركتها وتذليلها للإنسان.. هذا كل ما في الأمر.. فالحرائق إذا اجتمعت أسبابها اشتعلت.. بغض النظر عن الظروف التي تكتنفها.. والدليل أن الحرائق تشتعل في كل القارات ولا تكاد ينجو منها مكان.. وقد ضرب زلزال رهيب تركيا وهي بلد مسلم.. واجتاح طوفان غامر باكستان وهي بلد مسلم.. وكل ما يحدث هنا أو هناك.. قد يصيب المسلم و غير المسلم.. ولا ينفي ها أن يكون لله الأمر إذا شاء.
2. الإنسان بسلوكه الأرعن.. يتحول إلى مفسد في الأرض من الدرجة الأولى.. فهو الكائن الأشد عدوانية في هذا الكوكب.. ودوره في الإخلال بالتوازن الطبيعي والبيئي ثابت ومخرب.. إذ لا يقيم وزنا لما ينجم عن تصرفاته من نتائج مؤذية تصيب الطبيعة والإنسان.. وتغير المناخ مع ما يستصحبه من أخطار تحدق بالأرض والناس خير مثال على ذلك.. فبدل أن يتعاطى مع الطبيعة بحكمة ورفق.. نراه يمعن في غيه.. فيستنزف مواردها ويلوث الماء و الهواء ويلحق أشد الإضرار بالكائنات الحية.. وربما استفاق ذات يوم ليس ببعيد على كوكب غير صالح للعيش.
3. الطبيعة كما خلقها الله ترمم نفسها بنفسها.. يحدث هذا عندما يتعلق الأمر بالجوائح التي لا يد للإنسان فيها .. فكما يحفر النهر مجراه.. تعيد الطبيعة وفق قوانينها الخاصة إصلاح ما تضرر منها.. فالزلازل ليست سوى نزوع نحو الاستقرار تحدثه حركة الصفائح التكتونية.. والأعاصير تصريف لطاقة حرارية زائدة في المحيطات.. هذا على سبيل المثال.. غير أن الأمر ياخذ وجهة أخرى عندما يتدخل الإنسان.. فتأتي الأضرار فادحة وغير متوقعة ولا متحكم فيها.. وقد لا يتسنى تطويقها أو إصلاحها لاحقا.. فعندما تحدث العلماء عن ضبط الزيادة في درجة حرارة الكوكب أدني من 1.5 لإنقاذه من الهلاك.. أدركوا الآن أن التحكم في التداعيات الناتجة عن درجة واحدة أعلى من هذا المستوى غير ممكن.. وربما واجهت البشرية رهانا خاسرا.. إذ لا يمكن قهر الطبيعة أو ترويضها على النحو الذي يعتقده البعض.. فهي أقوى من قدرات الإنسان مهما عظمت.. وتوازنها الدقيق و الهش أحيانا يقتضي تواضع الإنسان أمامها.. فمن غير الحكمة أن يسعى في هزمها.. فهي ليست عدوا بل المكان الذي اختاره الله له (وَالَارْضَ وَضَعَهَا لِلَانَام – 8الرحمن).
4. ألق نظرة إلى الأراضي التي اجتاحتها الحرائق في أمريكا.. وستكتشف ضعف الإنسان الذي يعتقد أنه “القادر بعلمه و تقنياته” على كل شيء – كما صرح بايدن يوم وضعوا تلسكوب “جيمس ويب” في مداره .. وحين يتحدثون عن أسلحة القيامة والقدرة على إبادة الجنس البشري.. أو حين يهدد ترمب بفتح أبواب جهنم في الشرق الأوسط.. غير أن الدرس يأتي بغتة.. ليسلموا بالعجز أمام الجائحة.. بانتظار أن تسعفهم السماء بمطر يطفئ النار.. أو أن تتراجع سرعة الرياح فيخمد الحريق!
مشكلة الغرور البشري أنه يعمي النّاس عن التبصر في العاقبة.. ومن ثم لا يلوون على شيء في سباقهم المحموم للسيطرة على موارد الكوكب وتبذيرها من أجل مصالحهم الخاصة.. فبدل أن يتناغم الإنسان مع الطبيعة يقرر مواجهتها والخاسر يقينا هو في كلّ الأحوال.. مهما قويت شوكته وعلا جبروته.. فأمريكا بكامل قوتها ليست شيئا أمام قوى الطبيعة إذا جمحت.. وهذا ما نراه بالصوت والصورة.
5. حرائق أمريكا -وهي غير مسبوقة باعترافهم – قد يتم احتواؤها ماديا.. فيعاد بناء ما التهمته النار.. كما يتم التعويض عن الخسائر المؤمنة.. ليستأنف الناس نشاطهم المعهود.. لكن ماذا عن الخسائر النفسية بالنسبة إلى هؤلاء الذين اكتشفوا في لحظة ما أنهم خسروا كل شيء.. وإن جل ما امتلكوه أضحى رمادا.. وإن حكومتهم القوية لم تفعل شيئا لإنقاذهم.. لتستسلم أمام قوة الحريق؟ الإنسان مطالب بالتواضع.. وضعفه كامن فيه… وأمام قوة الطبيعة يتلاشى تماما.. غير أنه من النادر أن يفكر في العودة.
6. الدرس الذي لا يتعلمه الغرب إطلاقا.. هو إخفاقه في مراجعة نفسه دينيا و أخلاقيا.. حيث يتلقى بقسوة حصاد حضارة جردته من بعده الروحي.. وعرفته بوصفه كتلة مادية يمكن التعاطي معها بما توفر له من مُتع و ما تبيح له من شهوات لا غير.. وربما أوغلت في إقناعه ألا شيء يستحق اهتمامه أبعد من هذا.
من هذه الزاوية.. الغرب لا يفهم لغة الدين – لاعتبارات معروفة تاريخيا وفلسفيا ودينيا -.. ولا يرى في ما يصيبه أثرا لمخالفة سنن الله في الطبيعة.. فهو لا يعرف الله وربما أنكره تماما.. فليس لمسلم أن يقنع هؤلاء الغربيين أن ما يفعلونه سيضرهم لا محالة.. وإن الله الذي لا يرسل عليهم نيزكا ليبيدهم.. أو يغرقهم في البحر كما فعل مع فرعون.. قد يرسل إليهم إشارات للعودة قبل فوات الأوان.. وإن عذابه غير المنظور قد يكون أشق (.. أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاٗ وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍۖ.. – 66 الأنعام).. إن غطرسة القوة والاستغناء بالعلم باعتباره مفتاح كل الحلول كما يظنون.. والانفلات من كل قيد أو ضابط أخلاقي.. كل هذا يقف حجر عثرة أمام تصحيح موقفهم.. والظاهر أنهم قد ذهبوا بعيدا في هذا الاتجاه.
7. نحن المسلمين قد نسيء فهم ما يحدث.. وقد نتورط في مخالفات شرعية وأدبية.. وقد نصادم حقائق قرآنية تتعلق بتفسير الوقائع على الأرض.. فلا معنى لأن نُسر بما يصيب أمريكا.. فربما أصاب أبرياء كثيرين هناك.. وقد رأينا كيف انتفض طلاب الجامعات وعلت أصوات حرة في عموم أمريكا تدين إبادة غزة.. والصراع البشري الذي نشهد أحد فصوله بين العرب والصهاينة.. سيحسمه التدافع بين الحق والباطل كخلاصة نهائية.. وليس بما يصيب أمريكا.. وإذا خاطبنا “ترمب ” الذي هدد بجحيم يفتحه على غزة: هلا انتبهت لهذا الجحيم الذي أتاك من حيث لا تدري؟.. فلا يعني هذا حشر الأمريكيين كلهم في زاوية واحدة و إطلاق النار عليهم !
نحن نؤمن أن لله جنودا (وَلِلهِ جُنُودُ اُ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِۖ وَكَانَ اَ۬للَّهُ عَزِيزاً حَكِيماًۖ).[7 الفتح]. قد يكون منها قوى الطبيعة.. يسخرها كيف يشاء لتأديب الطغاة والعصاة.. إعصار فيه نار.. أو كسف من السماء.. أو طوفان يجرف الباطل.. أو رجة لا تبقي ولا تذر .. هذا كله قد يكون.. فالقوة لله جميعا (.. اَوَلَمْ يَرَوَاْ اَنَّ اَ۬للَّهَ اَ۬لذِے خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةٗۖ ..ۖ). [14 فصلت]. وقد يكون منها أيضا أقدار الله التي تطيح بترتيبات البشر.. و هذا الذي لا يستوعبه كثيرون.
ولو أن الله نظر إلى البشر بعين الانتقام بسبب ظلمهم (..مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٖ .. –) [61 النحل].. وهو القادر على إبادتهم في لحظة .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com