حرائق أتت على المدينة وأهلها غافلون…

د. فلة بوالقمح/
لوس أنجلس-كاليفورنيا، مدينة الأثرياء، نامت على أنقاضها بعد أن صارت حطام نار وأهلها غافلون.
رأيت نقاشا حادا يدور على مواقع التواصل الإجتماعي وفي كتابات المثقفين والدعاة والأكاديميين، على اختلاف أطيافهم، فشدني الموضوع لمتابعة ما ينشر خلال أسبوع. سال الحبر لأيام هنا، وهناك دماء غزة كانت تسيل غزيرة رقراقة.
حاولت أن أمسك الثوب الذي يحمل خبر النيران التي التهمت تقريبا لوس أنجلس بأكملها، ولكن الثوب كان واسعا فضفاضا فما وجدت إلا أن أحمله من أطرافه الأربعة كي لا يتسرّب منه المحتوى الذي أريد.
خرجت من ردائي الإسلامي وأمسكت بالطرف الأول كإنسان، دون معتقدات ولا إيديولوجيات ولا انتماءات عدا انتمائي للإنسانية، ونظرت لما يحدث بعيون الإنسان، ولا شيء غير الإنسان.
آلمني المشهد وأنا أرى النازحين بالمئات ودورهم التي لم يبق منها سوى الرماد، وكدت أحترق لحرقتهم لولا أن أيقظتني البراميل المتفجرة التي نزلت على غزة في ذات اللحظة، فرأيت غزة تحت الأنقاض على يميني ورأيت العالم على يساري بين متفرّج ومموّل بالبنزين، فانحبست دموعي واستحالت غضبا وغيظا، ونسيت حرائق المدينة.
ثم انتقلت إلى الطرف الثاني من الثوب ونظرت لذلك كله من زاوية الإنسان-المثقف فرأيت كيف يذهب كل ما نملك في جزء من الثانية ولا نبحث خلال ذلك كله سوى عن شيء واحد ولا شيء غيره، نبحث فقط عن الحياة، فازدحمت بذهني تساؤلات وتساؤلات واتجهت أطلب معنى الوجود.
ثم اتجهت إلى الطرف الثالث من الرداء وزاوية الإنسان-العالم-الخبير، فعرفت أن الإتقان في العمل وحسن تقدير الأمور واتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب وتنفيذه مهما كانت التكلفة المادية هو سبيل النجاة بمنطق العمل والأداء واتخاذ الأسباب، ذلك أني رأيت بيتا وحيدا ظل قائما كأن لم تمسسه نار، ثم اتضح أن البيت قد بني وفق معايير السلامة ومقاومة الزلازل والحرائق.
عدت إلى ذاتي كإنسان-مسلم مستخلف في الأرض لإعمارها لأمسك بالطرف الأخير، ونظرت إلى ما حدث. وبعين المسلم قلبت بصري وبصيرتي بين آيات الكتاب المبين. قرأت {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]، فعرفت أن النار آية من آيات الله تنبهنا أن الله بيده الأمر كله وهو على كل شيء قدير، وخشيت وأنا الإنسان الضعيف أن يصيبني ما أصاب القوم قبل أن أتوب وأرجع، فأكون من الهالكين. فسارعت إلى توبة من الله أرجو مغفرة منه ورضوانا.
ثم قرأت {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدّثر: 31]. فعرفت أن النار كالطوفان كالرياح كالزلازل كالبراكين، كلها جند من جنود الله يسيّرها بأمره ويرسيها بأمره، وأن الأمر كله لله وهو الرحمن الرحيم. فسكنت نفسي وسلمت واستسلمت للواحد القهار.
ثم قرأت {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 45] فعرفت أن الأرض كلها والكون كله يأتمر بأمر الله وقد يسخره الله ليكون وبالا على الظالمين. فخشيت على نفسي أن أكون من الظالمين وحرصت أن أتمسك بالعروة الوثقى وحبل الله المتين، علما وعملا وذكرا وأوبة في كل حين.
ثم قرأت {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] فعلمت أن الذنوب والإفساد في الأرض قد تكون سببا فيما يصيبنا الله به من الكوارث الطبيعية لعلنا نتدبّر ونتوب ونرجع.
وعرفت أنه {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] فعرفت أنني أنا المسؤول الوحيد عما يصيبني بتقصيري وسوء فهمي فحرصت أن يكون عملي كله لله ووفق منهج الله.
ثم قرأت {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] فعرفت أن الإنصراف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يكون سببا في إصابتي بالبلاء والعقاب الشديد مع أهل الفتن، وإن كنت من الصالحين…
ثم توقفت… و قرأت قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} ]فصلت:30 [ ، فعرفت أن الحل، كل الحل، هو في الإيمان بالله وحده لا نشرك به شيئا، إيمانا معجونا بالإستقامة على شرعه سبحانه، فيذهب الله عنا به الخوف و الحزن و تأتينا الملائكة مبشرة بجنات النعيم. فاطمأنت نفسي وقوي إيماني واعتقادي وعلت همّتي وسارعت إلى الميدان أبغي النجاة.
وفي النهاية، تسلل إلى قلبي خيط رفيع يشفي الصدور ليشعرني بالفرحة أن الله أذاق القوم ما أذاقوا إخوة لي هناك، من الهدم والنزوح والإبادة والتقتيل، ودعوت أن “اللهم اشف صدور قوم مؤمنين”… فلا تلوموني على ذلك كإنسان ولا كمثقف ولا كعالم أو خبير ولا كمسلم من عامة المسلمين.