اتق الله.. لا تقل هذا غضب الله! هذا غضب مخلوق من مخلوقات الله عز وجل

البروفيسور حبيب مونسي*/
لو غضب الجبار، فإن غضبته لا تبقي ولا تذر! وهل سجل تاريخ البشرية الطويل أنّ أمّة غضب الله عليها وبقيت منها باقية؟
تابعت ألسنة اللّهب وهي تأتي على الأخضر واليابس في لوس أنجلس، تلك المدينة التي اختار لها مؤسسوها أن يكون اسمها مقرونا بالملائكة، تيمّنا بقيام مجتمع متديّن آمن يزدهر مع توالي الأيام والسّنوات، يتقاطر إليها النّاس من كلّ حدب وصوب فتلتقي فيه الألوان، والجنسيات، واللّهجات، واللّغات. وتنصرف إليه الثّروات والخبرات، ويتّسع فيها المكان من شاطئ البحر ليرتفع مع الهضاب ويتمدّد مع السّهول. ومن يقرأ عن تاريخ المدينة يجد في كتابات من رحلوا إليها وهي في طور التّأسيس، أو هي في مراحل التّوسع والبناء، إشارات حادة تشير إلى انحرافها عن خط الملائكية، وتبنِّيها بقوة خط الشّهوات، والتّكاثر، والتّدافع. وأنّها لم تراع في سيرها نحو التّوسع حظ الملائكية التي رسمته في اسمها من أول يوم، بل تاجر أهلها بالدين، ليصنعوا منه أداة للسّيطرة، ومبرِّرا لما يقترفوه من سفك للدّماء، ومتاجرة بالأعراض، والتّعدي على حرمات الله عزّ وجل.
كان صوت الدّين منذ البدء، ضعيفا في نواقيس الكنائس، وكان ملوَّثا في خطب الوعّاظ بالطّمع والجشع، وكان رفعُ الأناجيل على المنصات تدليسا لتنكيس رؤوس الأتباع. وكانت المدينة بحجمها الذي بلغته اليوم، مدينة الشّر والشّيطان التي نبذت الخير وراء ظهرها، وصرفت طاقتها وجهودها لتصنع للبشرية أوهاما تُبعدها عن حقيقة الحياة، وطبيعة المآلات. فأنتجت هوليوود أفلامها وأشرطتها، لتكرِّس في النّاس الإلحاد، وتمجّد البطولات الزّائفة، وتعرض على المشاهدين آلهتها الذين استخرجتهم من رماد الماضي السّحيق ليعودوا في بهرج من الأنوار إلى الواجهة من جديد. فلم تترك صنما، ولا ربّا من الأرباب، لا قاطع طريق، ولا مجرما شهد التّاريخ بفظاعة جرائمه إلاّ أعلت له راية، ونصبت له منصّة، وقدمته على أنّه إنجاز إنساني يجب أن يتّخذ مثالا للحياة، والشطارة، والفوز بالملذات.
ربما لا يلتفت النّاس إلى هذه الأبعاد التي أتحدّث عنها، لأنهم رأوها مجرد فرجة، وأنها تُسوَّق ضمن الخيال والصورة. غير أن الخطابات المدسوسة في ثنايا كلّ عمل تُعيد تشكيل الإنسان، وتوجيه مشاعره، وبناء أفكاره بما يناسب التّكاثر، والتّدافع، والسّيطرة، وبناء القوّة على الشّطارة. بل كانت إعادة إخراج التّاريخ مرّة أخرى من خلال شاشاتها عملا مدروسا ليبرِّر كلّ ما قام به الإنسان الغربي من انتهاكات تعدّت حدّ الإنسانية لتصل إلى ما هو أدنى من الحيوانية. فكانت هذه الشّاشات لوحات للتبرير، والتّزيين، واستدراج النّاس لقبول الوضع على أنّه من مستلزمات التّطور. وبهذه الطريقة فُسِّرت الإبادات التي ارتُكبت في أطراف الأرض، وبهذا فُسِّر استعباد الشّعوب، وسلب ثوراتها. والتّدخل في شؤونها، وتوجيه ثقافاتها، والاستحواذ على شخصياتها.
حينما نرى ألسنة اللّهب تلتهم المدينة، وتحشد النّاس إلى العراء، حفاة، حاسري الرؤوس، ونرى من بينهم أولئك الذي صنعوا الوهم وبنوا مجدهم وثرواتهم منه، يبكون على قارعات الطرق، ندرك أنّ (شيئا قد هُدِم) وأن (أسطورة قد انتهت)، وأن (مدينة الملائكة) كشفت عن وجه من وجوه جحيم. وأنّ الفعلة ستتكرر في مدن أخرى، بدأت تتأهب لاستقبال أول شرارة تصل إلى أحراش المدينة، القريبة من مداخلها. وبدأ النّاس يستحضرون في خطابات نصوصهم القديمة التي تتحدّث عن نهاية الزّمان، وقُرب الحساب. وعلم الانسان الغربي قبل غيره من النّاس أن (مدينة الملائكة) تبشر بالخراب الوشيك، إلاّ أنّ الذي يحدث ليس غضب الله عزّ وجلّ قطعا، وإنّما هو غضب الطبيعة كما يقولون.
نعم إنّه غضب الطبيعة! الطبيعة التي ترفض بشدّة أن يهان اسم خالقها في المحافل، وأن يُغيّبَ اسمه من كل فعل، وأن تفسر أفعال النّاس وإنجازاتهم بعيدا عنه. إنّها تغضب لخالقها من استهتار هذا الانسان الذي وعد وأخلف، ومضى رفقة شياطينه لا يلوي على شيء، يهدم القيم، ويطوي الأخلاق، ويعبث بالمقدسات. حتى انتهى به الأمر إلى المثلية والشّذوذ. حُقَّ لها أن تغضب بما تستطيعه من قوة. فقد اختارت العواصف والزوابع أول الأمر، وها هي اليوم تختار النّار، تعضِّدها رياح هوجاء تأتي من كلّ ناحية، لتأجج الحرائق، وتدفع بها من حي إلى آخر. ولا تبرح المكان حتى تجعله رمادا تذروه الرّياح.
يمكن للمشاهد أن يقرأ في ألسنة اللّهب آيات ذلك الغضب، ويسمع في زمجرة الرّياح الهوجاء لغة ذلك الغضب، وأن يرى في فرار النّاس – وليس في أيديهم ما ملكوا وما شادوا – كلّ سطور الغضب وقد صيغت لغة تُقرأ، وخطبا يُسمع، ووعظا يخرج من حناجر مبحوحة. وله بعد ذلك أن يربط الذي يحدث أمامه بما حدث في غزّة، والسّودان، والعراق، واليمن من قبل. بما حدث في كلّ بلد استُعمر ودُمِّر. يمكنه أن يجد في الذي يحدث انتقام من الله عز وجلّ. غير أنّي – ومن خلال كتاب الله عزّ وجل- أعرف خبر غضب الله، الذي محا من على وجه الأرض أقواما في لحظات، بعضهم بصيحة، وبعضهم بطوفان، وبعضهم قلب الأرض رأسا على عقب … وقد أحصى المسلمون في كتبهم عقاب الله عزّ وجلّ المدمِّر، ليكون عبرة لمن يعتبر.
ما نشاهده اليوم، هو غضب مخلوق من مخلوقات الله عزّ وجلّ، أذن له الله أن يتحرك في تلك المدينة القصية كما تحرك من قبل في سادوم وعمورة بالبحر الميت، وفي بومبييه بإيطاليا، وفي مدين بالأردن، وفي مأرب باليمن… وغيرها من مدن أتى عليها أمر الله زلزلة، وخسفا، وإغراقا. والذي لا يضع الذي يحدث أمامه اليوم، في هذا الإطار الواسع لإدارة الله عزّ وجلّ لملكه، يكون كمن اطمأن لمكر الله. وظن أنّ النّار بعيدة عن أحراشه وعشّه، وأنّ هذا يحدث لآخرين فقط.
سيكون لهذا الحدث في نفوس النّاس أثر، إذا هم أخلصوا الفهم استفادوا من حرارته ولسعة ناره، وإذا هم وسجلوه باعتباره حادثة، فإنّه سريعا ما يتكرّر فيهم بأشدّ، وأبشع، وأفظع.. فالقنابل النّووية الهاجعة في مراقدها قد يهمس في أذنها هامس على حين غفلة من أهلها فتثب خارج أقبيتها هوجاء عمياء. وحينها لا مفر.
* أ.د. حبيب مونسي: باحث وأكاديمي، وكاتب، ناقد، صاحب مؤلفات متعددة ، وهو الآن يفسر القرآن الكريم في محاضرات أسبوعية .