رمتنا بدائها وانسلت

أ.د/ عبد الرزاق قسوم/
مجرم، من ظن لحظة، أن الاستعمار، في كل الأزمنة، وفي كل الأمكنة، قد يتوب عن غيه، ويؤوب إلى رشده.
ومخطئ، من ظن يوما، أن الاستعمار الفرنسي بالرغم من تغير الكون وما فيه، قد تتغير نظرته إلى الشعوب التي استعادت سيادتها، وافتكت الاعتراف باستقلالها، فالاستعمار شر، والشر كالشيطان، يأتي الشعوب من جوها وبحرها، ومن بين أيديها ومن خلفها، وعن شمائلها، فهو أقبح باطل، وأشنع ظلم في وجه الأرض.
كنا نظن، وبعض الظن إثم، أن مائة وثلاثين سنة من المعاناة، والثورات، والدماء، والدموع، والأنّات، هي كافية للحد من الصدامات، ورادعة لإعادة محاولة التدخلات، ولكن ما راعنا، إلا وقد “عادت لعترها لميس”، وما لميس هنا إلا فرنسا الاستعمارية، وما العتر إلا عمل الشر.
إن المعاهدات التي أعقبت استقلالنا، والاتفاقيات التي حددت تعاون بلداننا، قد حققت النديّة والتعاونية بيننا، فلهم استقلالهم ولنا استقلالنا، ولهم سيادتهم ولنا سيادتنا.
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فبعد أن خرجت فرنسا من الباب، هاهي تحاول أن تعود من النوافذ؛ نافذة الحدود، ونافذة النفوذ، ونافذة العملاء ذوي الفكر المنبوذ.
فلو أن مزدوجي الجنسية، العاقين لجنسيتهم الأصلية، والتي سلطتهم فرنسا على الجزائر، لو أنهم، كانوا حلقة وصل بين الوطنين، لرأب الصدع، ووصل القطع لحمدنا ظلهم.
ولو أنهم كانوا وسطاء خير بين متنازعين، وعنوان وفاء للجنسيتين، لوجدوا منا كل الحب والاحترام.
ولكن مزدوجي الجنسية، من ذوي الأفكار الإقصائية، تنكروا للأصول، وتجندوا لخدمة المغول، وأداروا ظهورهم لقيم الشهيد، وانحازوا للمعتدي العتيد المبيد.
وواعجبا، للاستعمار الفرنسي، إذ يقدم على الاعتداء على الذاكرة الوطنية، بتسليط الأفكار المارقة عن القيم الأصلية، ودعائم الهوية، فلم يراع الاستعمار الفرنسي بالذات، تطور البلدان المتحررة، ولم يحترم سيادة المجتمعات المتجذرة، فنراه يتمادى في غيه وجنونه، ويصر على تجاوز حدوده وشؤونه.
لقد بلونا الحكومات الفرنسية المتعاقبة فوجدناها كأدوات الشطرنج، قد تتغير أماكنها ولكنها لا تتبدل أدوارها.
وليت المعاملة تكون بالإنصاف والعدل، بين المعارضين من كل جانب.
ففي حين يتدخل رئيس الدولة الفرنسي بالذات، فينزل إلى مستوى المطالبة بإطلاق سراح متهم بزرع البلبلة، وتشويه الحقائق ضد وطنه وذاكرة شعبه، نرى السلطات تقدم على طرد جزائري من أرضها، لمجرد أنه تجرأ على نقد الأوضاع المتوترة، متهمة إياه، بالتأثير على الرأي العام. ومتى كان التأثير على الرأي العام تهمة يعاقب عليها القانون؟
فالساسة، والإعلاميون، وزعماء الأحزاب، تنحصر مهمتهم في التأثير على الرأي العام، ولا يعاقبهم القانون.
إننا نريد من فرنسا، أن تنزع العباءة الاستعمارية التي طالما ألحقت بها الأذى، وأدت بها إلى الكشف عن سرها، وشرها.
نريد لفرنسا، بعد تحررها من الطابع الاستعماري، أن تعود إلى فرنسا المبادئ، والقيم، وحقوق الإنسان، فتتخلى عن هؤلاء العملاء، الذين تجردوا من سحنتهم، وأصيبوا بزيف شحنتهم، فتحولوا إلى أدلاء-أذلاء يبشرون بمطامع الاستعمار، ويمهدون لعودته إلى الديار.
إنه ليسوؤنا والله، أن تكشف فرنسا عن وجهها الاستعماري القديم، الذي اعتقدنا، أنها قد تخلصت منه، فقد أساء إلى تاريخها وإلى ذاكرتها، فحولها إلى كيان جائع، تدفعه الهدات إلى الملذات فينتقم، بعد أن كان في العهد الاستعماري يلتهم، وينتقم.
ليدرك الفرنسيون أن الوطن الجزائري اليوم قد ازداد ثباتا وصلابة، فأصبح صعب المكسر، وصلب المخبر.
ولن تستطيع أية قوة، مهما اشتدت أن تنال من عزمه، أو أن تؤثر على حزمه، حتى ولو كانت من حَمَلَة الفكر المنسلب.
إننا نربأ بالفكر أن يكون مفتاحا للتضليل، أو أن يتحول اللسان إلى عنوان للتهويل والتطبيل.
وإننا لنعجب أن ينسب إلى بلد الملايين شهيد، من تنكر لدماء الشهداء، أو من يخدش في ذاكرة العلماء والأصلاء.
ونهيب بكل مواطن جزائري مخلص، أن يستخلص الدرس المستفاد، مما تعانيه البلاد، فيخلع رداء الانسلاب الحضاري، والخضوع، والخنوع، لبقايا الفكر الاستعماري.
سقطت الأقنعة –إذن- وبان الصبح لكل ذي عينين، فالصخرة لن تكون ثقيلة وصلبة إلا إذا تجذّرت في عمق أرضها، وتغذت بماء عذبها، وهواء نبضها.
وفي هذا السياق نحن مدعوون إلى إعادة النظر في مناهجنا التربوية، لنخلصها من كل آثار الاغتراب والانسلاب، كما أن خطابنا الديني، والإعلامي، والحزبي، مدعو إلى السمو بأسلوبه ومضمونه إلى مستوى الوحدة الوطنية المحصنة، وذلك لتمتين الجدار الوطني ضد أية محاولة خارجية مستهجنة.
على أننا بالرغم من كل هذا، نبقى متفتحين على أي حوار صادق، بناء، وأية يد ممدودة سمحاء، بعيدا عن أدران الماضي، وآثار المعاداة والتغاضي.
يجب أن يعلم من يعلن عن مد يده إلى الجزائر، من الجانب الفرنسي، والذي يلوح بإمكانية الحوار لتجاوز الماضي، والبحث عن حلول لكل ما يعكر صفو العلاقات، أن بين بلدنا وفرنسا، جبل من المشكلات:
1- بيننا وبينها أنهار من الدماء، لم تجف ولن تجف، إلا بتقديم الاعتذار، الواضح والصريح، ليصل صداها إلى من هو في المهد، ومن هو في الضريح.
2- بيننا وبين فرنسا، مواقف عداء، وصلت إلى حد تأليب الأشقاء، وتشجيع الانفصاليين الألداء العملاء.
3- مساندة الصهاينة المعتدين الإباديين الدخلاء، وهم يخوضون حربا استئصالية ضد الفلسطينيين الأشقاء، وتقديم العون لهم، تحت زعم الدفاع عن أرض الآباء.
4- ضرورة اتخاذ الحياد، في الخلافات بين الأشقاء، وعدم إذكاء الفتنة، وتأليب الفتن، في الساحل الإفريقي، وفي الصحراء.
في ضوء هذه المعطيات كلها، إذا كان الجانب الفرنسي، يريد تصفية الأجواء، وفتح حوار كامل، وشامل، وبناء، فأهلا وسهلا به، دون أي غموض أو التواء.
فقد رمتنا فرنسا بدائها وانسلت، فعملت ولا تزال تحاول زعزعة الاستقرار، وإلحاق الأضرار، والاستعانة بالأشرار والأغرار، وهذا ما يجعل من المستحيل فتح الحوار.