هل انتصرت غزة؟

عبد المالك بومنجل/
لست ممن تستهويه المبالغات في مدح ولا قدح، وفي تفاؤل ولا تشاؤم، وفي زعم نصر ولا افتراض هزيمة؛ فالحق أحق أن يقال، ورفع المعنويات يحسن أن يكون في إطار من الحق والعدل؛ وقد ذكر القرآن النصر وذكر المحنة والهزيمة.
لقد انتصرت غزة في امتحانات كثيرة، وحققت مكاسب نفيسة، ولكنها زلزلت زلزالا شديدا، وخسرت أرواحا كثيرة جدا وبنية عمرانية وتحتية هائلة. وفي الميزان العام يمكننا أن نقول: إنها انتصرت على مستويات عديدة:
-لقد أحيت في المسلمين ما كاد يندثر من الثقة في إمكان إنجاز عمل عسكري هائل يهز العدو هزا، ويدكه في معقله المغتصب دكا، ويبطل مسعى التطبيع الذي كان سيشمل بلاد الحرمين إبطالا حاسما لا تردد فيه.
-لقد جمعت مشاعر المسلمين من جديد حول قضيتهم، وعلقت قلوبهم برموز الجهاد والاستشهاد، والبطولة والرجولة، من بعد ما انصرف أكثر المسلمين إلى قدوات تافهة، ورموز هشة هزيلة، وانشغلوا بقضايا صغيرة أو تافهة أو هامشية.
-لقد لفتت نظر العالم إلى عالم أوشك أن ينقرض في ضمائر الناس، هو عالم القيم: فقد رأى العالم كله كيف يظهر الهمجي على همجيته، والمنافق على نفاقه، والفلسفات النظرية الغربية على خوائها وخلوها من المصداقية، كما رأى كيف يخرج المسلم أجمل ما فيه من الشجاعة والصبر، والذكاء والصمود، والرقة والرحمة، والإيمان بالله والرضا بقضائه، والتشبث بالأرض والتعلق بالسماء.
-لقد قدمت أنموذجا جديرا بالتعظيم والاعتزاز والافتخار والاحتفاء والاحتذاء للمسلم القوي العزيز الذكي المتين، الذي يحسن الإعداد والتخطيط، ويحسن التنفيذ والتدبير، فيثخن في العدو بعدد غير مسبوق من القتلى والأسرى والجرحى، ويظهر من البطولات في دحر عدو مدجج بالسلاح البالغ التطور، ومدعم بدول بالغة القوة والتنمر، ما لا يكاد يكون إلا في غزة!
وصناعة النموذج الأعلى في أمة هزلت نماذجها، مكسب روحي ونفسي عظيم، ومقدمة لتحقيق نصر عظيم.
-لقد صمدت غزة، قيادة وشعبا، صمودا منقطع النظير؛ فلم تستسلم لهمجية بلغت حدا غير معهود، ولا لخذلان من الأشقاء بلغ مستوى يندى له الجبين؛ بل قاومت وحدها عسكريا وسياسيا، وإيمانيا ونفسيا، وصمدت صمودا أسطوريا سيبقى رصيدا أخلاقيا وروحيا لا ينفد، لأجيال المسلمين وللإنسانية جمعاء.
-لقد أجبرت بصلابتها وشموخها، وإيمانها وصمودها، أجبرت العدو على اليأس من تحقيق مراميه الخبيثة، في التطبيع أولا، وفي التهجير ثانيا، وفي القضاء على المقاومة ثالثا، وفي قهر روح المقاومة والتشبث بأمل النصر رابعا، وفي تسليم غزة إلى غير أبنائها خامسا؛ وذلك -لو تعلمون- نصر عظيم.
أما الخسائر فهي كبيرة حقا. فليس هينا أن تخسر قادة من الطراز العالي كإسماعيل ويحيى. وليس هينا أن تخسر غزة عشرات الآلاف من رجالها ونسائها وأطفالها (وأي رجال وأي نساء وأي أطفال!). وليس هينا أن يدمر ثلاثة أرباع غزة؛ ولكنه الثمن المستحق لكل ما ذكر من المكاسب امتدادها في عالم القيم وفي باطن النفوس أعظم مما يلوح من ظاهر الأشياء.
هنيئا لكم يا أهل غزة ما صنعتم، وأسعد الله شهداءكم في الجنان، وضمد جراحكم وربط على قلوبكم وكتب لكم من الأمان والاستقرار ما يؤهلكم لفجر جديد.