غَزَّة العزة غرّة في جبين الأمة

أ.د. عبد المجيد بيرم
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
لقد اختار الله تعالى أهل غزة نيابة عن الأمة، ليكونوا الطائفة المنصورة، المرابطة في رباط عسقلان التي لا يضرّها من خذلها، لتعبِّد الطريق لتحرير الأقصى والمقدسات، فأضاءوا بملحمة طوفان الأقصى دربا لنهضة الأمة تنيرُ لها طريق التحرير، وقهروا بصبرهم وثباتهم عدوّهم، وسطروا بتضحياتهم صفحات من نّور ستبقى علامة فارقة في تاريخ الأمة المعاصر، وفي التّاريخ الإنساني.
فحقَّ للأمة أن تفخر بغزة وصمودها، وتفخر بمقاومتها، وانجازها،: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[سُورَةُ غَافِرٍ: 51]
وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم
من معاني النصر
«وما النصر إلا من عند الله» إنّ للنّصر صوراً تختلف باختلاف الحال الذي يكون فيه النّاس.
فثبات الفئة القليلة في غزة مُحاصَرةً من الجار القريب والبعيد أمام كيان صهيوني محتل، مدعوم بالأسلحة الفتاكة والتكنولوجية المتطورة ومسنود من قوى الشر الغربية ظاهرا وفي الخفاء، لفترة تزيد عن سنة وبضع شهور، وعجز المحتل من تحقيق أي هدف من أهدافه التي أعلن عنها : تحرير الأسرى بالقوة، وإنهاء المقاومة في غزة، والبقاء في المحاور الحدودية والمعابر، وإفراغ شمال غزة من سكانه، وتهجير جميع أهل غزة إلى سيناء، هو نصر.
وكلّ ما قام به هذا الكيان من الدّمار والإجرام، قابله الغزاويون بالصبر والثبات وسلاح الإيمان، الذي قوّى عزائمهم، وشحذ هممهم، وجعلهم يستصغرون العظائم، ويَسْتَبْسِلون، بل أثخن رجال غزة البواسل في جنودهم، وأوقعوا فيهم الهزائم، وأحبطوا خطط عدوّهم، ونالوا من عزمه، نصر أيضا.
وما أصاب هذا الكيان من اهتزاز صورته التي سوّقها الإعلام الغربي عنه لعقود، وتعرى هذا الكيان وظهر على حقيقته، فهي خسارة استراتيجية لم يذق طعمها منذ أن قامت لهذا الكيان دولة، وهذا نصر.
وإنّ من أكبر إنجازات معركة طوفان الأقصى استنهاض الأمة و احياءها من جديد و إعادة البوصلة إلى الجهة الصحيحة، والتذكير بأنّ بداية الطريق هو العودة للقرآن الكريم، وجعله المحور الذي تدور عليه مشاريعنا وأهدافنا في هذه الحياة، مع ضرورة توظيف سلاح الإيمان في معركة التحرير الكبرى، وتحقيق التنمية المتوازنة والشاملة في أوطاننا.
أمّا أكبر الإنجازات التي حققها العدو الصهيوني في فلسطين: فهو قتل آلاف من المدنيين من الأطفال والنساء، والشيوخ، والأطباء والإعلاميين وعناصر الدفاع المدني، وأَسْر المئات منهم، وتدمير البيوت والمستشفيات والمساجد والمدارس وتخريب البنية التحتية وكل ما يتحرك فوق الأرض.
بطلان سردية المطبعين
يقوم بعض المشككين والمطبعين بالترويج للسردية الإسرائيلية بأن الثمن الباهض الذي قدمه الشعب الفلسطيني في غزة لا يتناسب مع ما تحقق للمقاومة من تحرير الأسرى، ويرون في معركة طوفان الأقصى أنّها كانت مغامرة مجهولة العواقب، وأنّ الثمن المدفوع من التضحيات لا يستجيب لتطلعات الفلسطينيين، لذلك فلا مبرر للفرحة التي استقبل بها الفلسطينيون ومعهم شرفاء الأمّة والعالم خبر الصفقة المنجزة، وأوّل بنودها وقف العدوان، وأنّ الحفاوة بهذه الأخبار إنّما هو وسيلة للتغطية على الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه المقاومة باستفزاز الكيان المحتل، وجرّه للفتك بالفلسطينيين؟ فهل جانبت المقاومة الصواب في تقديرها، مع معرفتها أنّ ميزان القوة مختل بين المقاومة والكيان الصهيوني.
لا شك أنّ ما حلّ بأهل غزة مُصاب عظيم، وألم كبير، وأوجاع ليس بالسهولة تناسيها، فهناك الآلاف من الشهداء والّلاجئين والمشرّدين والأيتام والثكالى وتحول قطاع غزّة إلى خراب ودمار…
لكن إذا علمنا أنّ طوفان الأقصى كانت صرخة شعب مظلوم، عانى الأمرّين، وأنّ هذا الكيان المحتل جثم على صدور الفلسطينيين قرابة ثمانين عاما، وأذاقهم فيها كل ألوان العذاب، وما لا يخطر على البال، ولا يزال، وأنّ غزة ظلّت مُحاصَرة قرابة العقدين من الزمن وأضحت سجنا مفتوحا ومحروما من أبسط الاحتياجات الضرورية، ولم يعد يسمع لشكواهم أو يكترث لمعاناتهم أحد.
فإنّ طريق الحرية لا يعبّده إلّا الدّم، وإنّ الفلسطينيين ليسوا بِدعا في التّاريخ الإنساني، فلطالما قدّمت الأمم الحرّة عبر التاريخ الإنساني هذه الضريبة ثمنا لحريتها وكرامتها.
إنّ مشروع الوطن الحُر يُسترخص في سبيله كل غالٍ، و«شرف المواطن في سلاحه، وعقيدة الفلسطيني هي أرضه».
وللحريّة الحمراء باب *** بكل يد مضرجة يدقّ
ولنا فيما خلّده القرآن من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عبرة، ففي غزوة الأحزاب لمـــّا اجتمع على المسلمين الأعداء من كل جانب، فعاشوا حالة الخوف والكرب والضيق والشدّة وبلغت القلوب الحناجر، وزلزلوا زلزالا شديدا، ولكن بعد سنوات معدودات من هذه الغزوة دقّ الصحابة – رضي الله عنهم- أبواب فارس والروم!
أمّا عن تباكيهم على الشعب الفلسطيني، فإسرائيل مسؤولة عمّا لحق غزة من إبادة ودمار، و الغرب مشارك لها من خلال دعمه لهذا الكيان بالسلاح والتكنولوجيا والاعلام … ويقع على الجوار العربي نصيب من المسؤولية المباشرة إذ ساهم في الحصار والتجويع.
لملمة الجراح وإعادة البناء
إنّ العدوان على غزة خلَّف جراحات غائرة، فواجب الوقت هو مواساة الناس، والربط على قلوبهم، وتضميد جراح المصابين والتخفيف من معاناتهم، والوقوف معهم في محنتهم، ومدّ يد العون لهم، فغزة اليوم بحاجة إلى كل أنواع الدعم والمساهمة في إطلاق المبادرات المجتمعية، من كفالة الأيتام، وإعانة الجرحى، وإعالة الأرامل وزوجات الشهداء، وعوائل الأسرى.
والقيام بمشاريع إغاثية وتقديم المساعدات على اختلافها، لتبقى غزة العزة قلعةً للحق والصمود، ومنطلقا للتحرير.
إنّ إخواننا اليوم في كرب شديد، وإنّنا كجزائريين أحسن من يستطيع تلمّس آلامهم، ولملمة جراحهم، لما كابده الشعب الجزائري من الاستعمار الفرنسي لبلادنا، وإنّ الوقت، وقت المواساة بالجهد، والمال، وقد حالت دوننا الأسباب لمواساتهم بالأنفس، وستسمر مساعي الجزائر في مجلس الأمن لتضييق الخناق على هذا الكيان المحتل، وفي المحافل الدولية، واستغلال التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية كأولوية لا ينبغي إغفالها، حتى يعود الحق لأصحابه.
وأخيرا في خضم هذه الفرحة بتوقف العدوان على أهل غزة، ندعو الله تعالى بالرحمة لمن فارق الحياة أن يكتبهم مع الشهداء وأن يحشرهم مع النبيين والصديقين والصالحين، وللجرحى والمرضى بالشفاء العاجل، وأن يعوض خسائرهم بأفضل مما كانت، وأن يخفف عنهم ما أصابهم، ويعجل بفكاك الأسرى، وأن يجزيهم خير الجزاء على ما قدموه للأمة من أرواح وأنفس في سبيل مقدّساتها بثبات وصبر.