فلسفة الجسد (حقيقته وذاكرته)

أ.د حجيبة أحمد شيدخ/
كلما دخلنا عالم الأنترنت، وإن كنا نتابع برامج هادفة، تظهر لنا صور الكاسيات العاريات، الراقصات الماجنات، نساء غيبت عقولهن فتنة الحياة الدنيا، فجرين وراء الشهرة بكل ما هو مشين ومحزن …أصبحت كثير من النساء (في فضاءات كثيرة) تبدين مفاتنهن اعتقادا منهن أنهن كلما تعرين ازددن شهرة، إنه الجنون بعينه، والغريب أن كثيرا من هؤلاء النساء متزوجات (مسلمات ومسيحيات)، لقد استفحل هذا الداء بخاصة بعد كرونا، كأنه سباق مع الزمن لتدارك الملذات، هذا الجنون يصور لنا الحال التي وصلت إليها «امرأة العصر» الذي نعيشه، لم تعد المرأة تحترم نفسها فتعرت بكل الطرق الفاضحة فكرا وجسدا، أصبحت تتبجح بإعلان العصيان والتمرد على الدين والأعراف. وأنت تنظر إلى منظرها تشعر أن الكل مغيّب: هي والأسرة والمجتمع. تعطيك صور المرأة وهي تعلن فجورها حالة الحياة البشرية التي سيطرت عليها الآراء المنحرفة في فهم حقيقة الكينونة الإنسانية (روحا وجسد).
وفي الحديث عن الجسد يرى كثير من الفلاسفة أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة صافية إلا إذا تم التغلب على سجن الجسد، وتتفق مع هذه الفلسفة بعض الأديان التي ترى أن النفس تورطت في سجن الجسد، والتملص من هذا السجن يكون بقهره. وقد عاش الإنسان منذ القديم يجتهد لإعطاء فلسفة للجسد كانت كلها إما انحياز ا للنفس وإعلاء من قيمتها، أو انحياز ا لطلبات الجسد وانحدارا في ملاذه الترابية.
أما في الإسلام فنعتقد بإقامة التوازن بين حاجات الروح والجسد لأنهما يتكاملان لأداء الوظيفة الوجودية للإنسان، دون إفراط أو تفريط والحفاظ عليهما معا، والذي عبر عنه العلماء ب: حفظ النفس واعتبروه من كليات مقاصد الشريعة.
هذا الجسد وعاء للروح التي كرمنا الله – عزوجل بها- واستأمننا عليه لفترة عبورنا جسر الحياة الدنيا. وكل إنسان في الظروف الطبيعية يشعر بشيء من الجمال، حتى وإن لم ينظر في المرآة، وهذا مستوحى من مصدر الروح التي نحملها «ونفخت فيه من روحي». والجسد في الحقيقة أوجد من أجل حركة الإنسان لأداء وظيفة الخلافة، ولكن المؤسف أنه في وقتنا تحول الإنسان من مرتبة التقويم الحسن إلى مرتبة الإنسان الأرذل، إنسان عابد للجسد، تائه وراء ما يجعله يشار إليه بالأصابع، ضائع وراء الموضة وعمليات التجميل، و البحث عن الشباب الدائم، وعمليات العبور التي تنحدر به أسفل سافلين…
وعبر مساره الحياتي تطرأ على الإنسان تحولات في جسده تسببها الحروب و الأمراض والحوادث، فقد يفقد بعض أعضائه أو تحدث له تشوهات، بعضها يمكن علاجه وبعضها يتعذر جبره، فتبقى تلك الآثار تذكره بما حدث وقد تكون مصدر ألم له، إلا أن الإنسان المؤمن السوي ينظر إليها على أنها من ابتلاءات الله وسيجازى على صبره «ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» وتتحول إلى مصدر تذكير بنعم الله الكثيرة عليه، وتنبيه بأن استمرار الحياة وإن كان بعاهات جسدية، يبقى فضلا من الله، علّه يتيح له تدارك بعض تقصيراته.
وتبقى الذاكرة الحقيقية للجسد، ذاكرته يوم القيامة، حين يرجع إلى حاله الأولى و يشهد على صاحبه، وقد أخبرنا الله عز وجل أن أعضاء الإنسان ستشهد عليه يوم القيامة، والآيات التي تحدثت عن ذلك فهي وإن كانت في عمومها تتحدث عن الكفار، فإننا نستشعر منها القدرة الإلهية على إعادة هذا الجسد إلى حاله بعد أن يبلى في التراب وشهادته على صاحبه: أين حلّ، وإلى أين نظر، وماذا فعل؟ وهذه هي الذاكرة الحقيقية المخيفة، يقول تبارك وتعالى : ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ النور /24. ويقول: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فصلت/21. هذه هي ذاكرة الجسد التي يجب أن نتحدث عنها لنبني أخلاقا فاضلة ونحافظ على نقاء حياة أبنائنا وبناتنا.